{ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } أي : أنزلنا إليكم هذا الكتاب المبارك قطعا لحجتكم ، وخشية أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ، أي : اليهود والنصارى .
{ وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } أي : تقولون لَمْ تنزل علينا كتابا ، والكتب التي أنزلتها على الطائفتين ليس لنا بها علم ولا معرفة ، فأنزلنا إليكم كتابا ، لم ينزل من السماء كتاب أجمع ولا أوضح ولا أبين منه .
قال ابن جرير : معناه : وهذا كتاب أنزلناه لئلا يقولوا : { إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا }
يعني : لينقطع عذرهم ، كما قال تعالى : { وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا{[11417]} رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ [ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ] }{[11418]} [ القصص : 47 ] .
وقوله : { عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هم اليهود والنصارى وكذا قال مجاهد ، والسدي ، وقتادة ، وغير واحد .
وقوله : { وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } أي : وما كنا نفهم ما يقولون ؛ لأنهم ليسوا بلساننا ، ونحن مع ذلك في شغل وغفلة عما هم فيه .
{ أن تقولوا } كراهة أن تقولوا علة لأنزلناه . { إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا } اليهود والنصارى ، ولعل الاختصاص في { إنما } لأن الباقي المشهود حينئذ من الكتب السماوية لم يكن غير كتبهم . { وإن كنا } إن هي المخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبر كان أي وإنه كنا . { عن دراستهم } قراءتهم ، { لغافلين } لا ندري ما هي ، أو لا تعرف مثلها .
و { أن } من قوله { أن تقولوا } في موضع نصب ، والعامل فيه { أنزلناه } والتقدير : وهذا كتاب أنزلناه كراهية أن ، وهذا أصح الأقوال وأضبطها للمعنى المقصود ، وقيل العامل في { أن } قوله { واتقوا } فكأنه قال : واتقوا أن تقولوا ، وهذا تأويل يتخرج على معنى : واتقوا أن تقولوا كذا ، لأنه لا حجة لكم فيه ، ولكن يعرض فيه قلق لقوله أثناء ذلك { لعلكم ترحمون } وفي التأويل الأول يتسق نظم الآية ، و «الطائفتان » اليهود والنصارى بإجماع من المتأولين ، والدراسة :القراءة والتعلم بها ، و { إن } في قوله { وإن كنا } مخففة من الثقيلة ، واللام في قوله { لغافلين } لام توكيد ، هذا مذهب البصريين ، وحكى سيبويه عن بعض العرب أنهم يخففونها ويبقونها على عملها ، ومنه قراءة بعض أهل المدينة { وإن كلاً }{[5161]} وأما المشهور فإنها إذا خففت ترجع حرف ابتداء لا تعمل ، وأما على مذهب الكوفيين ف { إن } في هذه الآية بمعنى ما النافية ، واللام بمعنى إلا ، فكأنه قال وما كنا عن دراستهم إلا غافلين{[5162]} .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : معنى هذه الآية إزالة الحجة عن أيدي قريش وسائر العرب بأنهم لم يكن لهم كتاب ، فكأنه قال : وهذا القرآن يا معشر العرب أنزل حجة عليكم لئلا تقولوا إنما أنزلت التوراة والإنجيل بغير لساننا على غيرنا ، ونحن لم نعرف ذلك ، فهذا كتاب بلسانكم ومع رجل منكم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أن تقولوا}، يعني لئلا تقولوا: {إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا}، يعني اليهود والنصارى، {وإن كنا عن دراستهم لغافلين}، وذلك أن كفار مكة قالوا: قاتل الله اليهود والنصارى، كيف كذبوا أنبياءهم، فوالله لو جاءنا نذير وكتاب لكنا أهدى منهم، فنزلت هذه الآية فيهم: {أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
... معنى الكلام: وهذا كتاب أنزلناه مبارك لئلا تقولوا: إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا. فأما الطائفتان اللتان ذكرهما الله، وأخبر أنه إنما أنزل كتابه على نبيه محمد، لئلا يقول المشركون: لم ينزل علينا كتاب فنتبعه، ولم نؤمر ولم ننه، فليس علينا حجة فيما نأتي ونذر، إذ لم يأت من الله كتاب ولا رسول، وإنما الحجة على الطائفتين اللتين أنزل عليهما الكتاب من قبلنا، فإنهما اليهود والنصارى...
وأما "وَإنْ كُنّا عَنْ دِرَاستِهِمْ لغَافِلِينَ "فإنه يعني: أن تقولوا: وقد كنا عن تلاوة الطائفتين الكتاب الذي أنزلت عليهم غافلين، لا ندري ما هي، ولا نعلم ما يقرأون وما يقولون وما أنزل إليهم في كتابهم، لأنهم كانوا أهله دوننا، ولم نعن به، ولم نؤمر بما فيه، ولا هو بلساننا، فيتخذوا ذلك حجة. فقطع الله بإنزاله القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حجتهم تلك...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أزاح كلَّ عِلَة، وأبدى كل وصلة، فلم يُبْقِ لك تعللا، ولا في آثار الالتجاء إلى العذر موضعاً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَن تَقُولُواْ}: كراهة أن تقولوا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... معنى هذه الآية: إزالة الحجة عن أيدي قريش وسائر العرب بأنهم لم يكن لهم كتاب، فكأنه قال: وهذا القرآن يا معشر العرب أنزل حجة عليكم لئلا تقولوا إنما أنزلت التوراة والإنجيل بغير لساننا على غيرنا، ونحن لم نعرف ذلك، فهذا كتاب بلسانكم ومع رجل منكم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقد بطلت حجتكم، وسقطت معذرتكم، بتنزيل هذا الكتاب المبارك إليكم، تفصيلاً لكل شيء. بحيث لا تحتاجون إلى مرجع آخر وراءه؛ وبحيث لا يبقى جانب من جوانب الحياة لم يتناوله فتحتاجون أن تشرعوا له من عند أنفسكم...
ولماذا أنزل الحق هذا الكتاب؟. يأتي الحق هنا بالتمييز للأمة التي أراد لها أن ينزل فيها القرآن فيقول:
{أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156)}:
فالكتاب يصفي العقائد السابقة التي نزلت على الطائفتين من اليهود والنصارى، وإذا كنتم قد غفلتم عن دراسة التوراة والإنجيل؛ لأنكم أمة أمية لا تعرف القراءة والكتابة؛ لذلك أنزلنا إليكم الكتاب الكامل مخافة أن تصطادوا عذرا وتقولوا: إن أميتنا منعتنا من دراسة الكتاب الذي أنزل على طائفتين من قبلنا من اليهود والنصارى. وكأن الله أنزل ذلك الكتاب قطعا لاعتذارهم.