اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{أَن تَقُولُوٓاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلۡكِتَٰبُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيۡنِ مِن قَبۡلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمۡ لَغَٰفِلِينَ} (156)

قوله : " أن تَقُولُوا " فيه وجهان :

أحدهما : أنه مَفْعُول من أجله .

قول أبو حيَّان{[15612]} : " والعَامِلُ فيه " أنْزَلْنَاهُ " مقدّراً ، مَدْلُولاً عليه بنَفْس " أنْزَلْنَاهُ " المَلْفُوظِ به ، تقديرُه : أنْزَلْنَاه أن تقولوا " .

قال : " ولا جائز أن يعمل فيه " أنْزَلْنَاهُ " الملفوظ به ؛ لئلا يلزم الفصل بين العَامِل ومَعْمُولهِ بأجْنَبِيّ ، وذلك أنَّ " مُباركٌ " : إمَّا صِفَةٌ ، وإما خبرٌ ، وهو أجنبيُّ بكل من التقديرين " . وهذا الذي منَعَه هو ظَاهِرُ قول الكسائيّ ، والفرَّاء{[15613]} .

والثاني : أنَّها مَفْعُول به ، والعاملُ فيه : " واتَّقُوا " أي : واتَّقُوا قولكم كَيْتَ وكَيْتَ ، وقوله : " لَعَلُّكم تُرْحَمُون " معترضٌ جارٍ مُجْرى التَّعْلِيل ، وعلى كَوْنِه مَفْعُولاً من أجْلِه ، يكون تقديره عند البصريِّين على حَذْفِ مُضَافٍ ، تقديرُه : كراهة أن تَقُولُوا ، وعند الكوفيِّين يكون تقديره : " ألاَّ يَقُولُوا " .

قال الكسائيُّ{[15614]} : والفرَّاء : والتقدير : أنزَلْنَاهُ لئلا تَقُولُوا ، ثم حذف الجارِّ ، وحَرْف النَّهْي ، كقوله -تبارك وتعالى- : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ، وكقوله : { رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] ، أي : ألاَّ تَمِيد بِكُم ، وهذا مُطَّرِد عنْدَهُم في هذا النَّحْو ، وقد تقدَّم ذلك مراراً .

وقرا الجمهور : " تَقُولُوا " بتاء الخطاب ، وقرأ{[15615]} ابن مُحَيْصِن : " يَقُولوا " : بياء الغَيْبَة ، ومعنى الآية الكريمة ، كراهة أن يقول أهْلُ مكَّة : أنزل الكتاب ، وهو التُّوْراة ، والإنْجِيل على طَائِفَتَيْن من قَبْلِنَا ، وهُمْ اليَهُود والنَّصَارى .

قوله : " وَإنْ كُنَّا " [ " إنْ " ] مُخَفَّفَة من الثِّقِيلة عند البَصْريِّين ، وهي هُنَا مُهْمَلة ؛ ولذلك وَلِيتها الجُمْلة الفِعْليَّة ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك ، وأنَّ الكوفيِّين يَجْعَلُونها بمعنى : " ما " النَّافية ، واللام بمعنى : " إلاَّ " ، والتقدير : ما كُنَّا عن دِرَاسَتِهم إلاَّ غافِلِين .

وقال الزَّجَّاج{[15616]} بِمْثِل ذلك ، فَنَحا نحو الكوفيِّين .

وقال قُطْرُب : " إنْ " بمعنى " قَدْ " واللاَّم زَائِدة .

وقال الزَّمَخْشَري{[15617]} بعد أن قَرَّر مذهب البصريين كما قدَّمنا : " والأصْل : إنه كُنَّا عن عِبَادَتِهِم " فقدّر لها اسْماً مَحْذُوفاً ، هو ضمير الشَّأن ، كما يُقَدِّر النَّحْويُّون ذلك في " أنْ " بالفَتْح إذا خُفِّفَت ، وهذا مخالفٌ لِنُصُوصِهِم ، وذلك أنَّهم نَصُّوا على أنَّ : " إنْ " بالكَسْر إذا خُفِّفَت ، ولِيَتْهَا الجُمْلَةُ الفعليةُ النَّاسِخة ، فلا عَمَل لها ، لا في ظاهرٍ ولا مُضْمرٍ .

و " عَنْ دِرَاسَتِهِم " متعلِّق بخبر " كُنَّا " وهو : " غافلين " ، وفيه دلالة على بُطلان مذهب الكوفيين في زعمهم أن اللام بمعنى : " إلاَّ " ولا يَجُوز أن يَعْمَل ما بعد " إلاَّ " فيما قَبْلَها ؛ فكذلك ما هو بِمَعْنَاها .

قال أبو حيَّان{[15618]} : " ولَهُم أن يَجْعَلُوا " عَنْها " متعلِّقاً بمحذوف " وتقدَّم أيضاً خلاف أبي عليِّ ، في أنَّ هذه اللاَّم لَيْسَت لام الابتِدَاء ، بل لامٌ أخْرَى ، ويدلُّ أيضاً على أن اللاَّم لام ابتداء لَزِمتِ للفَرْق ، فجَازَ أن يتقدَّم مَعْمُولُها عليها ، لمّا وقعت في غَيْر ما هُو لَهَا أصل ، كما جاز ذلك في : " إنَّ زيداً طعامك لآكِلٌ " حَيْث وقعت في غير ما هُوَ لَهَا [ أصلٌ ]{[15619]} ولمْ يَجُزْ ذلك فيهَا إذا وقعت فيما هُوَ لَهَا أصْلٌ ، وهو دُخُولها على المُبْتَدأ .

وقال أبُو البقاءِ{[15620]} واللاَّم في " لغَافِلِين " : عِوض أو فَارِقَة بَيْن " إنْ " و " ما " .

قال شهاب الدين{[15621]} : قوله : " عِوَض " عبارة غَريبَةٌ ، وأكثر ما يُقَال : إنها عِوَضٌ عن التَّشْديد الَّذِي ذَهَبَ من " إنْ " ولَيْس بِشَيء .

فصل في معنى الآية

قال المفَسِّرُون : " إنْ " هي المُخَفَّفَة من الثّقِيلة ، واللاَّم هي الفَارِقَةُ بَيْنَهُمَا وبين النَّافيَة ، والأصْل : وإن كُنَّا عن دِرَاستِهِم غَافلين ، والمعنى : إثْبَات الحُجُّة عليهم بإنْزَال القُرْآن عَلَيْهم ، وقوله : { وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } أي : لا نَعْلَم مَا هِيَ ، لأن كِتَابَهُم لَيْس بِلُغَتِنَا .


[15612]:ينظر: البحر المحيط 4/257.
[15613]:ينظر: معاني القرآن 1/366.
[15614]:ينظر: الفخر الرازي 14/5.
[15615]:ينظر: إتحاف فضلاء البشر 2/39، الدر المصون 3/222.
[15616]:ينظر: معاني القرآن 2/338.
[15617]:ينظر: الكشاف 2/81.
[15618]:ينظر: البحر المحيط 4/257.
[15619]:سقط في ب.
[15620]:ينظر: الإملاء 1/266.
[15621]:ينظر: الدر المصون 3/222.