{ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } أي : مدت مدًا واسعًا ، وسهلت غاية التسهيل ، ليستقر الخلائق{[1419]} على ظهرها ، ويتمكنوا من حرثها وغراسها ، والبنيان فيها ، وسلوك الطرق الموصلة{[1420]} إلى أنواع المقاصد فيها .
واعلم أن تسطيحها لا ينافي أنها كرة مستديرة ، قد أحاطت الأفلاك فيها من جميع جوانبها ، كما دل على ذلك النقل والعقل والحس والمشاهدة ، كما هو مذكور معروف عند أكثر{[1421]} الناس ، خصوصًا في هذه الأزمنة ، التي وقف الناس على أكثر أرجائها بما أعطاهم الله من الأسباب المقربة للبعيد ، فإن التسطيح إنما ينافي كروية الجسم الصغير جدًا ، الذي لو سطح لم يبق له استدارة تذكر .
وأما جسم الأرض الذي هو في غاية الكبر والسعة{[1422]} ، فيكون كرويًا مسطحًا ، ولا يتنافى الأمران ، كما يعرف ذلك أرباب الخبرة .
{ وَإِلَى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } ؟ أي : كيف بسطت ومدت ومهدت ، فنبَّه البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه ، والسماء التي فوق رأسه ، والجبل الذي تجاهه ، والأرض التي تحته - على قدرة خالق ذلك وصانعه ، وأنه الرب العظيم الخالق المتصرف المالك ، وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه . وهكذا أقسم " ضِمَام " في سؤاله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، عن ثابت ، عن أنس قال : كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع ، فجاء رجل من أهل البادية فقال : يا محمد ، إنه أتانا رسولُك فزعَم لنا أنك تَزعُم أن الله أرسلك . قال : " صدق " . قال : فمن خلق السماء ؟ قال : " الله " . قال : فمن خلق الأرض ؟ قال : " الله " . قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل ؟ قال : " الله " . قال : فبالذي خلق السماء والأرض ونصب هذه الجبال ، آللهُ أرسلك ؟ قال : " نعم " . قال : وزعم رسولُك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا . قال : " صدق " . قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمرك بهذا ؟
قال : " نعم " . قال : وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا ؟ قال : " صدق " . قال : فبالذي أرسلك ، آلله أمرك بهذا ؟ . قال : " نعم " . قال : وزعم رسولك أن علينا حَجّ البيت من استطاع إليه سبيلا . قال : " صدق " . قال : ثم ولى فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن شيئا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن صدق ليدخُلَنّ الجنة " .
وقد رواه مسلم ، عن عمرو الناقد ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم ، به{[30002]} وعَلّقه البخاري ، ورواه الترمذي والنسائي ، من حديث سليمان بن المغيرة به{[30003]} ورواه الإمام أحمد والبخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجة من حديث الليث بن سعد ، عن سعيد المقبري ، عن شريك ابن عبد الله بن أبي نمر ، عن أنس ، به بطوله{[30004]} وقال في آخره : " وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر " .
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثني عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما كان يحدث عن امرأة في الجاهلية على رأس جبل ، معها ابن لها ترعى غنما ، فقال لها ابنها : يا أمه ، من خلقك ؟ قالت : الله . قال : فمن خلق أبي ؟ قالت : الله . قال : فمن خلقني ؟ قالت : الله . قال : فمن خلق السماء ؟ قالت : الله . قال : فمن خلق الأرض ؟ قالت : الله . قال : فمن خلق الجبل ؟ قالت : الله . قال : فمن خلق هذه الغنم ؟ قالت : الله . قال : إني لأسمع لله شأنا . وألقى نفسه من الجبل فتقطع .
قال ابن عمر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يحدثنا هذا .
قال ابن دينار : كان ابن عمر كثيرًا ما يحدثنا بهذا{[30005]} .
في إسناده ضعف ، وعبد الله بن جعفر هذا هو المديني ، ضَعّفه ولده الإمام علي بن المديني وغيره .
وقوله : وَإلى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ يقول : وإلى الأرض كيف بُسطت ، يقال : جبل مُسَطّح : إذا كان في أعلاه استواء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإلى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ : أي بُسطت ، يقول : أليس الذي خلق هذا بقادر على أن يخلق ما أراد في الجنة .
وقرأ الجمهور «سطِحت » وقرأ هارون الرشيد «سطّحت » بشد الطاء على المبالغة ، وهي قراءة الحسن ، وظاهر هذه الآية أن الأرض سطح لها كرة ، وهو الذي عليه أهل العلم ، والقول بكريتها وإن كان لا ينقض ركناً من أركان الشرع ، فهو قول لا يثبته علماء الشرع{[11782]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله : "وَإلى الأرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ" يقول : وإلى الأرض كيف بُسطت ، يقال : جبل مُسَطّح : إذا كان في أعلاه استواء .
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
وينظرون إلى الأرض كيف بسطها الله وسطحها ووسعها، ولولا ذلك لما صح الانتفاع بها والاستقرار عليها . وهذه نعم من الله تعالى على خلقه لا يوازيها نعمة منعم ، ولا يقاربها إحسان محسن فيجب أن يقابل ذلك باعظم الشكر . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فهي مهاد للمتقلب عليها ...والمعنى : أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق ، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه . ...
وجه المناسبة بينها وبين السماء والجبال والأرض... أن القرآن نزل على لغة العرب وكانوا يسافرون كثيرا ، لأن بلدتهم بلدة خالية من الزرع ، وكانت أسفارهم في أكثر الأمر على الإبل ، فكانوا كثيرا ما يسيرون عليها في المهامة والقفار مستوحشين منفردين عن الناس ، ومن شأن الإنسان إذا انفرد أن يقبل على التفكر في الأشياء ، لأنه ليس معه من يحادثه ، وليس هناك شيء يشغل به سمعه وبصره ، وإذا كان كذلك لم يكن له بد من أن يشغل باله بالفكرة ، فإذا فكر في ذلك الحال وقع بصره أول الأمر على الجمل الذي ركبه ، فيرى منظرا عجيبا ، وإذا نظر إلى فوق لم ير غير السماء ، وإذا نظر يمينا وشمالا لم ير غير الجبال ، وإذا نظر إلى ما تحت لم ير غير الأرض ....
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
مدت مدًا واسعًا ، وسهلت غاية التسهيل ، ليستقر الخلائق على ظهرها ، ويتمكنوا من حرثها وغراسها ، والبنيان فيها ، وسلوك الطرق الموصلة إلى أنواع المقاصد فيها . ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والأرض مسطوحة أمام النظر ، ممهدة للحياة والسير والعمل ، والناس لم يسطحوها كذلك . فقد سطحت قبل أن يكونوا هم . . أفلا ينظرون إليها ويتدبرون ما وراءها ، ويسألون : من سطحها ومهدها هكذا للحياة تمهيدا ? ...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وإذا ما ابتعدنا المحيط العربي القديم وما كان فيه ، وتوسعنا في مجال تأملنا ليشمل كلّ محيط البشرية ، لتوصلنا إلى أنّ هذه الأشياء الأربع تدخل في حياة الإنسان بشكلً رئيسي ، حيث من السماء مصدر النور والأمطار والهواء ، والأرض مصدر نمو أنواع النباتات وما يتغذى به ، وكذا الجبال فبالإضافة لكونها رمز الثبات والعلو ففيها مخازن المياه والمواد المعدنية بألوانها المتنوعة ، وما الإبل إلاّ نموذج شاخص متكامل لذلك الحيوان الأهلي الذي يقدّم مختلف الخدمات للإنسان . وعليه ، فقد تجمعت في هذه الأشياء الأربع كلّ مستلزمات «الزراعة » و«الصناعة » و«الثروة الحيوانية » ، وحريّ بالإنسان والحال هذه أن يتأمل في هذه النعم المعطاءة ، كي يندفع بشكل طبيعي لشكر المنعم سبحانه وتعالى ، وبلا شك فإنّ شكر المنعم سيدعوه لمعرفة خالق النعم أكثر فأكثر . ...