مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَإِلَى ٱلۡأَرۡضِ كَيۡفَ سُطِحَتۡ} (20)

{ وإلى الأرض كيف سطحت } سطحا بتمهيد وتوطئة ، فهي مهاد للمتقلب عليها ، ومن الناس من استدل بهذا على أن الأرض ليست بكرة وهو ضعيف ، لأن الكرة إذا كانت في غاية العظمة يكون كل قطعة منها كالسطح ، وقرأ علي عليه السلام كيف خلقت ورفعت ونصبت وسطحت على البناء للفاعل وتاء الضمير ، والتقدير فعلتها ، فحذف المفعول .

المقام الثاني : في بيان ما بين هذه الأشياء من المناسبة اعلم أن من الناس من فسر الإبل بالسحاب . قال صاحب «الكشاف » : ولعله لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب ، كالغمام والمزن والرباب والغيم والغين وغير ذلك ، وإنما رأى السحاب مشبها بالإبل في كثير من أشعارهم ، فجوز أن يراد بها السحاب على طريق التشبيه والمجاز ، وعلى هذا التقدير فالمناسبة ظاهرة . أما إذا حملنا الإبل على مفهومه المشهور ، فوجه المناسبة بينها وبين السماء والجبال والأرض من وجهين ( الأول ) : أن القرآن نزل على لغة العرب وكانوا يسافرون كثيرا ، لأن بلدتهم بلدة خالية من الزرع ، وكانت أسفارهم في أكثر الأمر على الإبل ، فكانوا كثيرا ما يسيرون عليها في المهامة والقفار مستوحشين منفردين عن الناس ، ومن شأن الإنسان إذا انفرد أن يقبل على التفكر في الأشياء ، لأنه ليس معه من يحادثه ، وليس هناك شيء يشغل به سمعه وبصره ، وإذا كان كذلك لم يكن له بد من أن يشغل باله بالفكرة ، فإذا فكر في ذلك الحال وقع بصره أول الأمر على الجمل الذي ركبه ، فيرى منظرا عجيبا ، وإذا نظر إلى فوق لم ير غير السماء ، وإذا نظر يمينا وشمالا لم ير غير الجبال ، وإذا نظر إلى ما تحت لم ير غير الأرض ، فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلوة والانفراد عن الغير حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النظر ، ثم إنه في وقت الخلوة في المفازة البعيدة لا يرى شيئا سوى هذه الأشياء ، فلا جرم جمع الله بينها في هذه الآية ( الوجه الثاني ) : أن جميع المخلوقات دالة على الصانع إلا أنها على قسمين : منها ما يكون للحكمة وللشهوة فيها نصيب معا ، ومنها ما يكون للحكمة فيها نصيب ، وليس للشهوة فيها نصيب .

والقسم الأول : كالإنسان الحسن الوجه ، والبساتين النزهة ، والذهب والفضة وغيرها ، فهذه الأشياء يمكن الاستدلال بها على الصانع الحكيم ، إلا أنها متعلق الشهوة ومطلوبة للنفس ، فلم يأمر تعالى بالنظر فيها ، لأنه لم يؤمن عند النظر إليها وفيها أن تصير داعية الشهوة غالبة على داعية الحكمة فيصير ذلك مانعا عن إتمام النظر والفكر وسببا لاستغراق النفس في محبته .

أما القسم الثاني : فهو كالحيوانات التي لا يكون في صورتها حسن ، ولكن يكون داعية تركيبها حكم باللغة وهي مثل الإبل وغيرها ، إلا أن ذكر الإبل ههنا أولى لأن إلف العرب بها أكثر وكذا السماء والجبال والأرض ، فإن دلائل الحدوث والحاجة فيها ظاهرة ، وليس فيها ما يكون نصيبا للشهوة ، فلما كان هذا القسم بحيث يكمل نصيب الحكمة فيه مع الأمن من زحمة الشهوة لا جرم أمر الله بالتدبر فيها فهذا ما يحضرنا في هذا الموضع وبالله التوفيق .