يقول تعالى : ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه : لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله ، وليكونن من الصالحين . فما وفى بما قال ، ولا صدق فيما ادعى ، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون{[13689]} الله ، عز وجل ، يوم القيامة ، عياذا بالله من ذلك .
وقد ذكر كثير من المفسرين ، منهم ابن عباس ، والحسن البصري : أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في " ثعلبة بن حاطب الأنصاري " .
وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير هاهنا وابن أبي حاتم ، من حديث مُعان{[13690]} بن رِفَاعة ، عن علي بن يزيد ، عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن ، مولى عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يرزقني مالا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " . قال : ثم قال مرة أخرى ، فقال : " أما ترضى أن تكون مثل نبي الله ، فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت " . قال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ارزق ثعلبة مالا " . قال : فاتخذ غنما ، فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة ، فتنحى عنها ، فنزل واديا من أوديتها ، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، ويترك ما سواهما . ثم نمت وكَثُرت ، فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود ، حتى ترك الجمعة . فطفق يتلقى الركبان{[13691]} يوم الجمعة ، يسألهم عن الأخبار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما فعل ثعلبة " ؟ فقالوا : يا رسول الله ، اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة . فأخبروه بأمره فقال : " يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة " . وأنزل الله جل ثناؤه : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } الآية [ التوبة : 103 ] قال : ونزلت عليه فرائض الصدقة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة : رجلا من جُهَيْنَة ، ورجلا من سليم ، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين ، وقال لهما : " مُرا بثعلبة ، وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما " . فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا جزية . ما هذه إلا أخت الجزية . ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرُغا ثم عُودا إلي . فانطلقا وسمع بهما السلمي ، فنظر إلى خيار أسنان إبله ، فعزلها للصدقة ، ثم استقبلهما{[13692]} بها فلما رأوها قالوا : ما يجب عليك هذا ، وما نريد أن نأخذ هذا منك . قال : بلى ، فخذوها ، فإن نفسي بذلك طيبة ، وإنما هي له . فأخذوها منه . فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مَرَّا بثعلبة ، فقال : أروني كتابكما فنظر فيه ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية . انطلقا حتى أرى رأيي . فانطلقا حتى أتيا النبي{[13693]} صلى الله عليه وسلم ، فلما رآهما قال : " يا ويح ثعلبة " قبل أن يكلمهما ، ودعا للسلمي بالبركة ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي ، فأنزل الله ، عز وجل : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } إلى قوله : { وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } قال : وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة ، فسمع ذلك ، فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة . قد أنزل الله فيك كذا وكذا . فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يقبل منه صدقته ، فقال : " إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك " . فجعل يحثو على رأسه التراب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " [ هذا ]{[13694]} عملك ، قد أمرتك فلم تطعني " . فلما أبى أن يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى منزله ، فقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئا . ثم أتى أبا بكر ، رضي الله عنه ، حين استخلف ، فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله ، وموضعي من الأنصار ، فاقبل صدقتي . فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبى أن يقبلها ، فقبض أبو بكر ولم يقبلها . فلما وَلِي عمر ، رضي الله عنه ، أتاه فقال : يا أمير المؤمنين ، اقبل صدقتي . فقال : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ، وأنا{[13695]} أقبلها منك ! فقبض ولم يقبلها ؛ ثم ولي عثمان ، رضي الله عنه ، [ فأتاه ]{[13696]} فسأله أن يقبل صدقته ، فقال : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ، وأنا أقبلها منك ! فلم يقبلها منه ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان{[13697]}
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمِنْهُمْ مّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ * فَلَمّآ آتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلّواْ وّهُمْ مّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىَ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : ومن هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك يا محمد صفتهم مَنْ عَاهَدَ اللّهَ يقوله : أعطى الله عهدا ، لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ يقول : لئن أعطانا الله من فضله ، ورزقنا مالاً ، ووسع علينا من عنده لَنَصّدّقَنّ يقول : لنخرجنّ الصدقة من ذلك المال الذي رزقنا ربنا ، وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ يقول : ولنعملنّ فيها بعمل أهل الصلاح بأموالهم من صلة الرحم به وإنفاقه في سبيل الله . يقول الله تبارك حق الله . وَتَوَلّوْا يقول : وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه الله ، وهُمْ مُعْرِضُونَ عنه . فَأعْقَبَهُمُ الله نِفاقا فِي قُلُوبِهِمْ ببخلهم بحقّ الله الذي فرضه عليهم فيما آتاهم من فضله ، وإخلافهم الوعد الذي وعدوا الله ، ونقضهم عهده في قلوبهم إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله ما وَعَدُوهُ من الصدقة والنفقة في سبيله ، وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ في قيلهم ، وحرّمهم التوبة منه لأنه جلّ ثناؤه اشترط في نفاقهم أنه أعقبهموه إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ وذلك يوم مماتهم وخروجهم من الدنيا .
واختلف أهل التأويل في المعنى بهذه الآية ، فقال بعضهم : عني بها رجل يقال له ثعلبة بن حاطب من الأنصار . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ . . . الآية ، وذلك أن رجلاً يقال له ثعلبة بن حاطب من الأنصار ، أتى مجلسا فأشهدهم ، فقال : لئن آتاني الله من فضله ، آتيت منه كلّ ذي حقّ حقه ، وتصدّقت منه ، ووصلت منه القرابة فابتلاه الله فآتاه من فضله ، فأخلف الله ما وعده ، وأغب الله بما أخلف ما وعده ، فقصّ الله شأنه في القرآن : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ . . . الآية ، إلى قوله : يَكْذِبُونَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا محمد بن شعيب ، قال : حدثنا معاذ بن رفاعة السّلَمي ، عن أبي عبد الملك عليّ بن يزيد الإلهاني ، أنه أخبره عن القاسم بن عبد الرحمن ، أنه أخبره عن أبي أمامة الباهلي ، عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يرزقني مالاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَيحَكَ يا ثَعْلَبَة ، قَلِيلٌ تُؤَدّى شُكْرَهُ ، خَيْبرٌ مِنْ كَثِيرٍ لا تُطِيقُه » قال : ثم قال مرّة أخرى ، فقال : «أما تَرْضَى أنْ تَكُونَ مِثْلَ نَبِيّ اللّهِ ؟ فَوَالّذِي نَفُسِي بِيَدِهِ لَوْ شِئْتُ أنْ تَسِيرَ مَعي الجِبَالُ ذَهَبا وَفِضّةً لَسارَتْ » قال : والذي بعثك بالحقّ ، لئن دعوت الله فرزقني مالاً لأعطينّ كل ذي حقّ حقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُمّ ارْزُقْ ثَعْلَبَةَ مَالاً » . قال : فاتخذ غنما ، فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ، فنزل واديا من أدويتها ، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، ويترك ما سواهما . ثم نمت وكثرت ، فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود ، حتى ترك الجمعة . فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة يسألهم عن الأخبار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما فَعَلَ ثَعْلَبَةُ ؟ » فقالوا : يا رسول الله اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة ، فأخبروه بأمره فقال : «يا ويْحَ ثَعْلَبَةُ يا ويْحَ ثَعْلَبَةُ يا ويْحَ ثَعْلَبَةُ » قال : وأنزل الله : خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً . . . الآية . ونزلت عليه فرائض الصدقة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة ، رجلاً من جهينة ، ورجلاً من سليم ، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين ، وقال لهما : «مُرّا بثعلبة ، وبفلان رجل من بني سليم فخُذَا صَدَقَاتِهمَا » فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرغا ثم عودوا إليّ فانطلقا ، وسمع بهما السلميّ ، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهم بها ، فلما رأوها ، قالوا : ما يجب عليك هذا ، وما تريد أن نأخذ هذا منك . قال : بلى ول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرغا ثم عودوا إليّ فانطلقا ، وسمع بهما السلميّ ، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهم بها ، فلما رأوها ، قالوا : ما يجب عليك هذا ، وما تريد أن نأخذ هذا منك . قال : بلى أن يكلمهما ، ودعا للسلميّ بالبركة ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة ، والذي صنع السلميّ ، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لنصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ . . . إلى قوله : وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة ، فسمع ذلك ، فخرج حتى أتاه ، فقال : ويحك يا ثعلبة ، قد أنزل الله فيك كذا وكذا فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يقبل منه صدقته . فقال : «إنّ اللّهَ مَنَعَنِي أنْ أقْبَلَ مِنْكَ صَدَقَتَكَ » فجعل يحثي على رأسه التراب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «هَذَا عَمَلُكَ ، قَدْ أمَرْتُكَ فَلَمْ تُطِعْنِي » . فلما أبى أن يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رجع إلى منزله ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئا . ثم أتى أبا بكر حين استخلف ، فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي من الأنصار ، فاقبل صدقتي فقال أبو بكر : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقبلها ؟ فقُبض أبو بكر ولم يقبضها . فلما ولي عمر أتاه فقال : يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي فقال : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أبو بكر ، وأنا لا أقبلها منك فقُبض ولم يقبلها . ثم ولي عثمان رحمة الله عليه ، فأتاه فسأله أن يقبل صدقته ، فقال : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أبو بكر ولا عمر رضوان الله عليهما وأنا لا أقبلها منك فلم يقبلها منه ، وهَلك ثعلبة في خلافة عثمان رحمة الله عليه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ . . . الآية : ذُكر لنا أن رجلاً من الأنصار أتى على مجلس من الأنصار ، فقال لئن آتاه مالاً ، ليؤدّينّ إلى كلّ ذي حقّ حقه فآتاه الله مالاً ، فصنع فيه ما تسمعون . قال : فَمَا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ . . . إلى قوله : وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ذُكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حدّث أن موسى عليه الصلاة والسلام لمّا جاء بالتوراة إلى بني إسرائيل قالت بنو إسرائيل : إن التوراة كثيرة ، وإنا لا نفرغ لها ، فسل لنا ربك جماعا من الأمر نحافظ عليه ونتفرّغ فيه لمعايشنا قال : يا قوم مهلاً مهلاً ، هذا كتاب الله ، ونور الله ، وعصمة الله . قال : فأعادوا عليه ، فأعاد عليهم ، قالها ثلاثا . قال : فأوحى الله إلى موسى : ما يقول عبادي ؟ قال : يا ربّ يقولون : كيت وكيت . قال : فإني آمرهم بثلاث إن حافظوا عليهنّ دخلوا بهنّ الجنة : أن ينتهوا إلى قسمة الميراث فلا يظلموا فيها ، ولا يدخلوا أبصارهم البيوت حتى يؤذن لهم ، وأن لا يطعموا طعاما حتى يتوضؤوا وضوء الصلاة . قال : فرجع بهنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه ، ففرحوا ورأوا أنهم سيقومون بهنّ ، قال : فوالله ما لبث القوم إلا قليلاً حتى جنحوا ، وانقطع بهم فلما حدّث نبيّ الله بهذا الحديث عن بني إسرائيل ، قال : «تكَفّلُوا لي بستّ أتكفل لكم بالجنة » قالوا : ما هنّ يا رسول الله ؟ قال : «إذا حدثتم فلا تكذبوا ، وإذا وعدتم فلا تخلفوا ، وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا ، وكفوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم وأبصاركم عن الخيانة وأيديكم عن السرقة وفروجكم عن الزنا » .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : «ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ صَارَ مُنافِقا وإنْ صَامَ وصَلّى وَزَعَمَ أنّهُ مُسْلِمٌ : إذَا حَدّثَ كَذَبَ ، وإذَا اؤتُمِنَ خانَ ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ » .
وقال آخرون : بل المعنيّ بذلك : رجلان : أحدهما ثعلبة ، والاَخر معتب بن قشير . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عمرو بن عبيد ، عن الحسن : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ . . . إلى الاَخر ، وكان الذي عاهد الله منهم ثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، هما من بني عمرو بن عوف .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ قال : رجلان خرجا على ملإ قعود ، فقالا : والله لئن رزقنا الله لنصدّقَنّ فلما رزقهم الله بخلوا به .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ رجلان خرجا على ملإ قعود ، فقالا : والله لئن رزقنا الله لنصدّقنّ فلما رزقهم بخلوا به ، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه حين قالوا : لنصدّقنّ فلم يفعلوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد نحوه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ . . . الآية ، قال : هؤلاء صنف من المنافقين ، فلما آتاهم ذلك بخلوا به فلما بخلوا بذلك أعقبهم بذلك نفاقا إلى يوم يلقونه ، ليس لهم منه توبة ولا مغفرة ولا عفو ، كما أصاب إبليس حين منعه التوبة .
وقال أبو جعفر : في هذه الآية الإبانة من الله جلّ ثناؤه عن علامة أهل النفاق ، أعني في قوله : فأعْقَبَهُم نِفَاقا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله ما وَعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ .
وبنحو هذا القول كان يقول جماعة من الصحابة والتابعين ، ووردت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال : قال عبد الله : اعتبروا المنافق بثلاث : إذ حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر . وأنزل الله تصديق ذلك في كتابه : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ . . . إلى قوله : يَكْذِبُونَ .
حدثني محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن السماك ، عن صبيح بن عبد الله بن عميرة ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : ثلاث من كنّ فيه كان منافقا : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان . قال : وتلا هذه الآية : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ . . . إلى آخر الآية .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك ، قال : سمعت صبيح بن عبد الله القيسي يقول : سألت عبد الله بن عمرو ، عن المنافق ، فذكر نحوه .
حدثني محمد بن معمر ، قال : حدثنا أبو هشام المخززمي ، قال : حدثنا عبد الواحد بن زياد ، قال : حدثنا عثمان بن حكيم ، قال : سمعت محمد بن كعب القُرظَيّ ، يقول : كنت أسمع أن المنافق يعرف بثلاث : بالكذب ، والإخلاف ، والخيانة . فالتمستها في كتاب الله زمانا لا أجدها . ثم وجدتها في آيتين من كتاب الله ، قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ . . . حتى بلغ : وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ، وقوله : إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ على السّمَوَاتِ والأرْضِ هذه الآية .
حدثني القاسم بن بشر بن معروف ، قال : حدثنا أسامة ، قال : حدثنا محمد المخرمي ، قال : سمعت الحسن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ فَهُوَ مُنافِقٌ وَإنْ صَلّى وَصَامَ وَزَعَمَ أنّهُ مُسْلِمٌ : إذَا حَدّثَ كَذَبَ ، وإذَا وَعَدَ أخْلَفَ ، وإذَا اؤتُمِنَ خانَ » فقلت للحسن : يا أبا سعيد لئن كان لرجل عليّ دين فلقيني ، فتقاضاني وليس عندي ، وخفت أن يحبسني ويهلكني ، فوعدته أن أقضيه رأس الهلال فلم أفعل ، أمنافق أنا ؟ قال : هكذا جاء الحديث . ثم حدّث عن عبد الله بن عمرو أن أباه لما حضره الموت ، قال : زوّجوا فلانا فإني وعدته أن أزوجه ، لا ألقى الله بثلث النفاق قال : قلت : يا أبا سعيد ويكون ثلث الرجل منافقا وثلثاه مؤمن ؟ قال : هكذا جاء الحديث . قال : فحججت فلقيت عطاء بن أبي رباح ، فأخبرته الحديث الذي سمعته من الحسن ، وبالذي قلت له وقال لي . فقال : أعجزت أن تقول له : أخبرني عن إخوة يوسف عليه السلام ، ألم يَعِدوا أباهم فأخلفوه وحدّثوه فكذَبوه وأتمنهم فخانوه ، أفمنافقين كانوا ؟ ألم يكونوا أنبياء أبوهم نبيّ وجدّهم نبيّ ؟ قال : فقلت لعطاء : يا أبا محمد حدثني بأصل النفاق ، وبأصل هذا الحديث فقال : حدثني جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصة الذين حدّثوا النبيّ فكذبوه ، وأتمنهم على سرّه فخانوه ، ووعدوه أن يخرجوه معه في الغزو فأخلفوه . قال : وخرج أبو سفيان من مكة ، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : «إنّ أبا سُفْيانَ فِي مَكانِ كَذَا وكَذَا ، فاخْرُجُوا إلَيْهِ وَاكْتُمُوا » قال : فكتب رجل من المنافقين إليه أن محمدا يريديكم ، فخذوا حذركم ، فأنزل الله : لاَ تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ وأنزل في المنافقين : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَ وَاكْتُمُوا » قال : فكتب رجل من المنافقين إليه أن محمدا يريديكم ، فخذوا حذركم ، فأنزل الله : لاَ تَخُونُوا اللّهَ والرّسُولَ وتَخُونُوا أماناتِكُمْ وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ وأنزل في المنافقين : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَسعيد ، إن أخاك عطاء يقرئك السلام فأخبرته بالحديث الذي حدّث وما قال لي . فأخذ الحسن بيدي فأمالها وقال : يا أهل العراق أعجزتم أن تكونوا مثل هذا ؟ سمع مني حديثا فلم يقبله حتى استنبط أصله ، صدق عطاء هكذا الحديث ، وهذا في المنافقين خاصة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : أخبرنا يعقوب ، عن الحسن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ وَإنْ صَلّى وَصَامَ وَزَعَمَ أنّهُ مُسْلِمٌ فَهُوَ مُنافِقٌ » . فقيل له : ما هي يا رسول الله ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام : «إذَا حَدّثَ كَذَبَ ، وَإذَا وَعَدَ أخْلَفَ ، وَإذَا اؤتُمِنَ خَانَ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : حدثنا ميسرة ، عن الأوزاعي عن هارون بن رباب ، عن عبد الله بن عمرو بن وائل ، أنه لما حضرته الوفاة ، قال : إن فلانا خطب إليّ ابنتي ، وإني كنت قلت له فيها قولاً شبيها بالعِدة ، والله لا ألقى الله بثلث النفاق ، وأشهدكم أني قد زوّجته
وقال قوم : كان العهد الذي عاهد الله هؤلاء المنافقون شيئا نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : سمعت معتمر بن سليمان التيمي يقول : ركبت البحر فأصابنا ريح شديدة ، فنذر قوم منا نذورا ، ونويت أنا لم أتكلم به . فلما قدمت البصرة ، سألت أبي سليمان ، فقال لي يا بنيّ : فُهْ به .
قال معتمر ، وثنا كهمس عن سعيد بن ثابت ، قال : قوله : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ . . . الآية ، قال : إنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به ، ألم تسمع إلى قوله : ألَمْ يَعْلَمُوا أنّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرّهُمْ وَنجْواهُمْ وأنّ اللّهَ عَلاّمُ الغُيُوبِ ؟ .
قيل : نزلت في ثعلبة بن حاطب من المنافقين سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بسعة الرزق فدعا له فأثرى إثرَاءً كثيراً فلمّا جاءه المصدّقون ليعطي زكاة أنعامه امتنع من ذلك ثم ندم فجاء بصدقته فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها منه . وذكروا من قصته أنّه تاب ولكن لم تقبل صدقته في زمن النبي ولا في زمن الخلفاء الثلاثة بعده عقوبة له وإظهاراً للاستغناء عنه حتّى مات في خلافة عثمان ، وقد قيل : إنّ قائل ذلك هو معتِّب بن قشير ، وعلى هذا فضمائر الجمع في لنصدّقنّ وما بعده مراد بها واحد وإنّما نسبت الفعل إلى جماعة المنافقين على طريقة العرب في إلصاق فعل الواحد بقبيلته . ويحتمل أنّ ثعلبة سأل ذلك فتبعه بعض أصحابه مثل معتب بن قشير فأوتي مثل ما أوتي ثعلبة وبخل مثل ما بخل وإن لم تجىء فيه قصة كما تقدّم آنفاً .
وجملة { لنصدقن } بيان لجملة { عاهد الله } وفعل { لنصدقن } أصله لنتصدقن فأدغم للتخفيف .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 75]
يقول تعالى ذكره: ومِن هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك يا محمد صفتهم "مَنْ عَاهَدَ اللّهَ "يقول: أعطى الله عهدا، "لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ" يقول: لئن أعطانا الله من فضله، ورزقنا مالاً، ووسع علينا من عنده "لَنَصّدّقَنّ" يقول: لنخرجنّ الصدقة من ذلك المال الذي رزقنا ربنا، "وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ" يقول: ولنعملنّ فيها بعمل أهل الصلاح بأموالهم؛ من صلة الرحم به وإنفاقه في سبيل الله. يقول الله تبارك وتعالى: فرزقهم الله وأتاهم من فضله = "فلما آتاهم الله من فضله بخلوا به"، بفضل الله الذي آتاهم، فلم يصدّقوا منه، ولم يصلوا منه قرابةً، ولم ينفقوا منه في حق الله. "وَتَوَلّوْا" يقول: وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه الله، "وهُمْ مُعْرِضُونَ" عنه. "فَأعْقَبَهُمُ" الله "نِفاقا فِي قُلُوبِهِمْ" ببخلهم بحقّ الله الذي فرضه عليهم فيما آتاهم من فضله، وإخلافهم الوعد الذي وعدوا الله، ونقضهم عهده في قلوبهم "إلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله ما وَعَدُوهُ" من الصدقة والنفقة في سبيله، "وبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ" في قيلهم، وحرّمهم التوبة منه لأنه جلّ ثناؤه اشترط في نفاقهم أنه أعقبهموه إلى "يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ" وذلك يوم مماتهم وخروجهم من الدنيا...
في هذه الآية الإبانة من الله جلّ ثناؤه عن علامة أهل النفاق، أعني في قوله: "فأعْقَبَهُم نِفَاقا في قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أخْلَفُوا الله ما وَعَدُوهُ وبِما كانُوا يَكْذِبُونَ".
وبنحو هذا القول كان يقول جماعة من الصحابة والتابعين، ووردت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم... حدثني القاسم بن بشر بن معروف، قال: حدثنا أسامة، قال: حدثنا محمد المخرمي، قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثَلاثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ فَهُوَ مُنافِقٌ وَإنْ صَلّى وَصَامَ وَزَعَمَ أنّهُ مُسْلِمٌ: إذَا حَدّثَ كَذَبَ، وإذَا وَعَدَ أخْلَفَ، وإذَا اؤتُمِنَ خانَ»...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 75]
منهم مَنْ أَكَّدَ العَقْدَ مع الله، ثم نَقَضَه، فَلَحِقَه شُؤْمُ ذلك؛ فَبقِي خالداً في نِفاقِه. ويقال تطلَّبَ إحسانَ ربِّه، وتقرَّبَ إليه بإبرام عهده فلمَّا حقَّق اللهُ مسؤولَه واستجاب مأموله، فَسخَ ما أبرمه، وانسلخ عما التزمه، واستولى عليه البُخْلُ، فَضَنَّ بإخراج حقه، فَلَحِقَه شؤمُ نِفاقِه، بأن بَقِيَ إلى الأبد في أَسْرِه. وحدُّ البخل -على لسان العلم- مَنْعُ الواجب. وبُخْلِ كلِّ أحدٍ على ما يليق بحاله، وكلُّ مَنْ آثر شيئاً من دون رضاء ربِّه فقد اتصف ببخله، فَمَنْ يَبْخَلْ بماله تَزلْ عنه البركةُ حتى يؤول إلى وارثٍ أو يزول بحارث. ومَنْ يبخلْ بنَفْسِه ويتقاعس عن طاعته تفارقه الصحةُ حتى لا يستمتع بحياته. والذي يبخل بروحِه عنه يُعاقَبُ بالخذلان حتى تكون حياتُه سبباً لشقائه...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَوْله تَعَالَى {بَخِلُوا بِهِ}: اُخْتُلِفَ فِيهِ؛ فَقِيلَ: الْبُخْلُ مَنْعُ الْوَاجِبِ، وَالشُّحُّ مَنْعُ الْمُسْتَحَبِّ قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ} إلَى: {الْقِيَامَةِ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ...} الآية. وَقِيلَ: هُمَا وَاحِدٌ. وَقَدْ سَبَقَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الْمُتَقَدِّمِ مِنَ الْقَوْلِ، وَمَا حَكَيْنَاهُ هَاهُنَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَعَلَيْهِ تَدُلُّ الْأَحَادِيثُ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِيهَا، وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِيهَا.
وهذا يدل على أنه تعالى وصفهم بصفات ثلاثة:
الصفة الأولى: البخل وهو عبارة عن منع الحق.
والصفة الثانية: التولي على العهد.
والصفة الثالثة: الإعراض عن تكاليف الله وأوامره.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فلما آتاهم} وكرر قوله: {من فضله} تقريراً لما قاله المعاهد تأكيداً للإعلام بأنه لا حق عليه لأحد ولا صنع فيما ينعم به ولا قدرة عليه بوجه {بخلوا به} أي كذبوا فيما عاهدوا عليه وأكدوه غاية التأكيد، فلم يتصدقوا بل منعوا الحق الواجب إظهاره فضلاً عن صدقة السر {وتولوا} أي كلفوا أنفسهم الإعراض عن الطاعة لمن تفضل عليهم مع معرفتهم بقبح نقض العهد؛ ولما كان التولي قد يحمل على ما بالجسد فقط قال: {وهم معرضون*} أي بقلوبهم، والإعراض وصف لهم لازم لم يتجدد لهم، بل كان غريزة فيهم ونحن عالمون بها من حين أوقعوا العهد...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فلما آتاهم من فضله} ما طلبوا من سعة رزقه. {بخلوا به وتولوا} أي ما لبثوا أن بخلوا بما آتاهم عقب حصوله، وأمسكوه فلم يتصدقوا بشيء منه، وتولوا وانصرفوا عن الاستعانة به على الطاعة وإصلاح حالهم وحال أمتهم كما عاهدوا وأقسموا، ولم يكن توليهم هذا أمرا عارضاً شغلهم عنه شاغل يزول بزواله، بل تولوا {وهم معرضون} بكل قواهم عن الصدقة والعمل الصالح، فكان الإعراض صفة راسخة فيهم حاكمة عليهم، بحيث إذا ذكروا بما يجب عليهم لا يذكرون، وإذا دعوا إليه لا يستجيبون...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) فلما أن استجاب اللّه له ورزقه من فضله نسي عهده، وتنكر لوعده، وأدركه الشح والبخل فقبض يده، وتولى معرضاً عن الوفاء بما عاهد. فكان هذا النكث بالعهد مع الكذب على اللّه فيه سبباً في التمكين للنفاق في قلبه، والموت مع هذا النفاق، ولقاء اللّه به. والنفس البشرية ضعيفة شحيحة، إلا من عصم اللّه؛ ولا تطهر من هذا الشح إلا أن تعمر بالإيمان، وترتفع على ضرورات الأرض، وتنطلق من قيود الحرص على النفع القريب، لأنها تؤمل في خلف أعظم، وتؤمل في رضوان من اللّه أكبر. والقلب المؤمن يطمئن بالإيمان، فلا يخشى الفقر بسبب الإنفاق، لأنه يثق بأن ما عند الناس ينفد وما عند اللّه باق. وهذا الاطمئنان يدفع به إلى إنفاق المال في سبيل اللّه تطوعاً ورضى وتطهراً، وهو آمن مغبته. فحتى لو فقد المال وافتقر منه، فإن له عوضاً أعظم عند اللّه. فأما حين يقفر القلب من الإيمان الصحيح، فالشح الفطري يهيج في نفسه كلما دعي إلى نفقة أو صدقة، والخوف من الفقر يتراءى له فيقعد به عن البذل. ثم يبقى سجين شحه وخوفه بلا أمن ولا قرار...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ} لأن العهد لم يكن منطلقاً من حالة تقوى وموقف إيمان، بل من حالةٍ استعراضيّةٍ تمنحهم فرصة الهروب من الموقف الصعب آنذاك من جهة، وتهيئ لهم الظهور بمظهر التقوى والصلاح من جهة أخرى، فإذا جاءت التجربة الحيّة التي تتحدى فيهم صدق الموقف، سقطوا أمامها، وامتنعوا عن الوفاء بما عاهدوا الله عليه، وبخلوا بالمال الذي رزقهم الله إياه {وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} عن كل ما قالوه، وعن كل ما التزموا به...