ولما كانت الحياة في هذه الأرض لا تحقق الكمال المقدر لبني الإنسان ، فقد شاء الله أن يصل المؤمنون الذين ساروا في الطريق ، إلى الغاية المقدرة لهم ، هنالك في الفردوس ، دار الخلود بلا فناء ، والأمن بلا خوف ، والاستقرار بلا زوال :
( أولئك هم الوارثون ، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) . .
وتلك غاية الفلاح الذي كتبه الله للمؤمنين . وليس بعدها من غاية تمتد إليها عين أو خيال . .
ولَما وَصَفَهم [ الله ]{[20476]} تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال : { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن " {[20477]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما منكم من أحد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات فدخل النار وَرثَ أهل الجنة منزله ، فذلك قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } {[20478]} .
وقال ابن جُرَيْج ، عن لَيْث ، عن مجاهد : { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } قال : ما من عبد إلا وله منزلان : منزل في الجنة ، ومنزل في النار ، فأما المؤمن فيُبنَى بيته الذي في الجنة ، ويُهدّم بيته الذي في النار{[20479]} ، وأما الكافر فيُهْدَم بيته الذي في الجنة ، ويُبنى بيته الذي في النار . وروي عن سعيد بن جُبَيْر نحو ذلك .
فالمؤمنون يرثون منازل الكفار ؛ لأنهم [ كلهم ]{[20480]} خلقوا لعبادة الله تعالى{[20481]} ، فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة ، وترَكَ أولئك ما أمرُوا به مما خُلقوا له - أحرزَ هؤلاء نصيب أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل ، بل أبلغ من هذا أيضًا ، وهو ما ثبت في صحيح مسلم ، عن أبي بُردَةَ{[20482]} ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال ، فيغفرها الله لهم ، ويضَعُها على اليهود والنصارى " {[20483]} .
وفي لفظ له : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم القيامة دَفَعَ الله لكل مسلم يهوديًّا أو نصرانيًّا ، فيقال{[20484]} : هذا فَكَاكُكَ من النار " . فاستحلف عُمر بن عبد العزيز أبا بُردَةَ بالله الذي لا إله إلا هو ، ثلاث مرات ، أن أباه حَدَّثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فحلف له{[20485]} . قلت : وهذه الآية كقوله تعالى : { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا } [ مريم : 63 ] ، وكقوله : { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزخرف : 73 ] . وقد قال مجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر : الجنة بالرومية هي الفردوس .
وقال بعض السلف : لا يسمى البستان فردوسًا إلا إذا كان فيه عنب ، فالله أعلم{[20486]} .
{ الذين يرثون الفردوس } بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها وتأكيدا ، وهي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم ، وإن كان بمقتضى وعده مبالغة فيه . وقيل إنهم يرثون من الكفار منازلهم فيها حيث فوتوها على أنفسهم لأنه تعالى خلق لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار . { هم فيها خالدون } أنت الضمير لأنه اسم للجنة أو لطبقتها العليا .
و { الفردوس } ، مدينة الجنة وهي جنة الأعناب ، واللفظة ، فيما قال مجاهد ، رومية عربت ، والعرب تقول للكروم فراديس ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم حارثة : «إنها جنان كثيرة وإن ابنك قد أصاب الفردوس الأعلى »{[8458]} .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"الّذِينَ يَرِثُونَ" البستان ذا الكَرْم، وهو الفِرْدَوْسُ عند العرب... عن قَتادة، قال: قُتل حارثة بن سُراقة يوم بدر، فقالت أمه: يا رسول الله، إن كان ابني من أهل الجنة لم أبك عليه، وإن كان من أهل النار بالغت في البكاء. قال: «يا أُمّ حارِثَةَ، إنّها جَنّتانِ فِي جَنّةٍ، وَإنّ ابْنَكِ قَدْ أصَابَ الفِرْدَوْسَ الأعْلَى مِنَ الجَنّةِ».
وقوله: "هُمْ فِيها خالِدُونَ "يعني ماكثون فيها، يقول: هؤلاء الذين يرثون الفردوس خالدون، يعني ماكثون فيها أبدا لا يتحوّلون عنها.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
سمى الله تعالى الجنة بأسماء مختلفة. منها: عَدْن ومنها نعيم، ومنها مأوى، ومنها فردوس، وهي في الحقيقة واحد... وروي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الفردوس ربوة الجنة العليا، وهي أوسطها وأحسنها) (الترمذي 3174).
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... معنى "يرثون الفردوس "أي يصيرون إليها بعد الأحوال المتقدمة. والفردوس: البستان الذي يجمع محاسن النبات.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
ثم ترجم الوارثين بقوله: {الذين يَرِثُونَ الفردوس} فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر. ومعنى الإرث: ما مرّ في سورة مريم. أنث الفردوس على تأويل الجنة، وهو: البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {الفردوس}، مدينة الجنة وهي جنة الأعناب، واللفظة، فيما قال مجاهد، رومية عربت، والعرب تقول للكروم فراديس...
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{الذين يرثون الفردوس} بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها تفخيما لها وتأكيدا، وهي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس من أعمالهم، وإن كان بمقتضى وعده مبالغة فيه.
التفسير القيم لابن القيم 751 هـ :
و«الفردوس» اسم يقال على جميع الجنة، ويقال: على أفضلها وأعلاها، كأنه أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} لا يظعنون عنها، ولا يبغون عنها حولا لاشتمالها على أكمل النعيم وأفضله وأتمه، من غير مكدر ولا منغص.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
[نص مكرر لاشتراكه مع الآية 10]
ولما كانت الحياة في هذه الأرض لا تحقق الكمال المقدر لبني الإنسان، فقد شاء الله أن يصل المؤمنون الذين ساروا في الطريق، إلى الغاية المقدرة لهم، هنالك في الفردوس، دار الخلود بلا فناء، والأمن بلا خوف، والاستقرار بلا زوال... وتلك غاية الفلاح الذي كتبه الله للمؤمنين. وليس بعدها من غاية تمتد إليها عين أو خيال...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
قال عليه الصلاة والسلام:"إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس" رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.
فأي شيء يرثه المؤمنون الذين توفرت فيهم هذه الصفات؟ يجيب الحق سبحانه: {الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}: إذن: الحق سبحانه ورثهم في الفانية ليعطيهم الفردوس الخالد في الآخرة، والفردوس أعلى الجنة، فورث الحق لينفع عباده ويصعد النفع لهم، ففي الدنيا كنا ننتفع بالأسباب، وفي الآخرة ننتفع بغير أسباب، الحق ورث ليعطي، لا مثل ما أخذ إنما فوق ما أخذ، لأننا نأخذ في الميراث ما يفنى، والله تعالى يعطينا في ميراثه ما يبقى. لكن ممن يرثون الفردوس؟ قالوا: الحق- تبارك وتعالى- عندما خلق الخلق، وجعل فيهم الاختيار بين الإيمان والكفر، وبين الطاعة والمعصية رتب على ذلك أمورا، فجعل الجنة على فرض أن الخلق كلهم مؤمنون، بحيث لو دخلوا الجنة جميعا ما كانت هناك أزمة أماكن ولا زحام، وكذلك جعل النار على فرض أن الخلق كلهم كافرون، فلو كفر الناس جميعا لكان لكل منهم مكانه في النار. وعليه فحين يدخل أهل الجنة الجنة يتركون أماكنهم في النار، وحين يدخل أهل النار النار يتركون أماكنهم في الجنة، فيرث أهل النار الأماكن الشاغرة فيها، ويرث أهل الجنة الأماكن الشاغرة فيها. والفردوس أعلى مكان في الجنة، لذلك كان النبي (ص) يقول:"إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة" ذلك، لأن الفردوس جنة على أعلى ربوة في الجنة. يعني: في مكان مميز منها، والعلو في مسألة المسكن والجنان أمر محبوب في الدنيا، الناس يحبون السكنى في الأماكن العالية، حيث نقاء الهواء ونقاء الماء...
ثم يقول تعالى: {هم فيها خالدون} لأن نعيم الجنة باق ودائم لا ينقطع، وقد عرفنا أن نعيم الدنيا موقوت مهما أوتي الإنسان منه، فإنه منقطع زائل، إما أن يتركك بالفقر والحاجة، وإما أن تتركه أنت بالموت، لذلك يقول تعالى في نعيم الآخرة: {لا مقطوعة ولا ممنوعة (33)} [الواقعة].
وهكذا نلحظ على استهلال هذه السورة أن الحق سبحانه بدأ بالكلام عن الفلاح في الآخرة كأنه قدم ثمرة الإيمان أولا، ووضع الجزاء بداية بين يديك كأنه سبحانه يقول لك: هذا جزاء من آمن بي واتبع منهجي...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ويمكن أن تكون عبارة «يرثون» إشارة إلى نيل المؤمنين لها دون تعب مثلما يحصل الوارث الإرث دون تعب. وصحيح أنّ الإنسان يبذل جهوداً واسعة ويضحّي بوقته ويسلب راحته في بناء ذاته والتقرّب إلى الله، إلاّ أنّ هذا الجزاء الجميل أكثر بكثير من قدر هذه الأعمال البسيطة، وكأنّ المؤمن ينال الفردوس دون تعب ومشقّة...
وعلى كلّ حال فإنّ هذه المنزلة العالية حسب ظاهر الآيات المذكورة أعلاه خاصّة بالمؤمنين الذين لهم هذه الصفات، ونجد أهل الجنّة الآخرين في منازل أقلّ أهميّة من هؤلاء المؤمنين.