فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (11)

ثم بين الموروث بقوله :

{ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ( 11 ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ( 12 ) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ( 13 ) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ( 14 ) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ( 15 ) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ( 16 ) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ( 17 ) } .

{ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ } لغة رومية معربة ، وقيل فارسية ، وقيل حبشية ، وقيل عربية ، وهو أوسط الجنة وأعلى الجنان ، كما صح تفسيره بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمعنى أن من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهو الوارث الذي يرث من الجنة ذلك المكان ، وهذا بيان لما يرثونه وتقييد للوراثة بعد إطلاقها وتفسير لها بعد إبهامها ، وتفخيم لها ورفع لمحلها : وهي استعارة لاستحقاقهم الفردوس بأعمالهم حسبما يقتضيه الوعد الكريم للمبالغة فيه .

وقيل المعنى أنهم يرثون من الكفار منازلهم فيها حيث فرقوها على أنفسهم ، لأنه سبحانه خلق لكل إنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار .

وعن أبي هريرة قال : يرثون مساكنهم ومساكن إخوانهم التي أعدت لهم لو أطاعوا الله . وعنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما منكم من أحد إلا وله منزلان ، منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله ، فذلك قوله : { أولئك هم الوارثون } {[1253]} أخرجه ابن ماجة وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والبيهقي وغيرهم ، وأخرجه الترمذي وقال حسن صحيح ، وعبد بن حميد عن أنس فذكر قصة ، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها ) {[1254]} .

ويدل على هذه الوراثة المذكورة هنا قوله تعالى : { تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا } ، وقوله : { تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون } وشهد لحديث أبي هريرة هذا ما في صحيح مسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم : ويضعها على اليهود والنصارى ) {[1255]} ، وفي لفظ له قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول : هذا فكاكك من النار ) {[1256]} .

{ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } حالية أو مستأنفة لا محل لها ، ومعنى الخلود أنهم يدومون فيها لا يخرجون منها ولا يموتون فيها وتأنيث الضمير مع أنه راجع إلى الفردوس لأنه بمعنى الجنة ، ولما حث الله سبحانه عباده على العبادة ، ووعدهم الفردوس على فعلها وتضمن ذلك المعاد الأخروي عاد إلى تقرير المبدأ ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين ، فإن الابتداء في العادة أصعب من الإعادة لقوله : وهو أهون عليه ، وجملة ما ذكره من الدلائل أنواع أربعة .

الأول : الاستدلال بتقلب الإنسان في أطوار الخلقة وهي تسعة آخرها تبعثون .

الثاني : خلق السماوات بقوله : { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق } .

الثالث : إنزال الماء بقوله : { وأنزلنا من السماء ماء } .

الرابع : الاستدلال بأحوال الحيوانات بقوله : { وإن لكم في الأنعام لعبرة } ، وأحوال الحيوان أربعة مذكورة في الآية فقال .


[1253]:ابن ماجة كتاب الزهد الباب 39.
[1254]:الترمذي كتاب التفسير سورة 23/2 ـ أحمد بن حنبل 3/260.
[1255]:مسام 2767.
[1256]:مسلم 2767.