{ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي } فليضروني بأدنى شيء من الضرر ، وليكيدوني ، فلا يقدرون .
{ إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } هو المنفرد بنعمة الخلق ، ونعمة الهداية للمصالح الدينية والدنيوية .
ثم خصص منها بعض الضروريات فقال : { وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ } فهذا هو وحده المنفرد بذلك ، فيجب أن يفرد بالعبادة والطاعة ، وتترك هذه الأصنام ، التي لا تخلق ، ولا تهدي ، ولا تمرض ، ولا تشفي ، ولا تطعم ولا تسقي ، ولا تميت ، ولا تحيي ، ولا تنفع عابديها ، بكشف الكروب ، ولا مغفرة الذنوب .
فهذا دليل قاطع ، وحجة باهرة ، لا تقدرون أنتم وآباؤكم على معارضتها ، فدل على اشتراككم في الضلال ، وترككم طريق الهدى والرشد . قال الله تعالى : { وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } الآيات .
ثم يأخذ إبراهيم - عليه السلام - في صفة ربه . رب العالمين . وصلته به في كل حال وفي كل حين . فنحس القربى الوثيقة ، والصلة الندية ، والشعور بيد الله في كل حركة ونأمة ، وفي كل حاجة وغاية .
( الذي خلقني فهو يهدين . والذي هو يطعمني ويسقين . وإذا مرضت فهو يشفين . والذي يميتني ثم يحيين . والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ) . .
ونستشعر من صفة إبراهيم لربه ، واسترساله في تصوير صلته به ، أنه يعيش بكيانه كله مع ربه . وأنه يتطلع إليه في ثقة ، ويتوجه إليه في حب ؛ وأنه يصفه كأنه يراه ، ويحس وقع إنعامه وإفضاله عليه بقلبه ومشاعره وجوارحه . . والنغمة الرخية في حكاية قوله في القرآن تساعد على إشاعة هذا الجو وإلقاء هذا الظل ، بالإيقاع العذب الرخي اللين المديد . .
( الذي خلقني فهو يهدين ) . . الذي أنشأني من حيث يعلم ولا أعلم ؛ فهو أعلم بماهيتي وتكويني ، ووظائفي ومشاعري ، وحالي ومآلي : ( فهو يهدين )إليه ، وإلى طريقي الذي أسلكه ، وإلى نهجي الذي أسير عليه . وكأنما يحس إبراهيم - عليه السلام - أنه عجينة طيعة في يد الصانع المبدع ، يصوغها كيف شاء ، على أي صورة أراد . إنه الاستسلام المطلق في طمأنينة وراحة وثقة ويقين .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر إبراهيم، عليه السلام، نعم رب العالمين تعالى، فقال: {الذي خلقني فهو يهدين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول:"فإنهم عدوّ لي إلا ربّ العالمين الّذي خَلَقَنِي فَهُو يَهْدِينِ" للصواب من القول والعمل، ويسدّدني للرشاد.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
ثم وصفه فقال {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} أخبر أن الهادي على الحقيقة هو الخالق لا هادي غيره.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم وصف رب العالمين فقال: هو "الذي خلقني "واخرجني من العدم إلى الوجود "فهو يهدين "لأن هداية الخلق إلى الرشاد أمر يجل، فلا يكون إلا ممن خلق الخلق، كأنه قيل من يهديك؟ ومن يسد خلتك بما يطعمك ويسقيك؟ ومن إذا مرضت يشفيك؟ فقال -دالا بالمعلوم على المجهول "الذي خلقني، فهو يهدين.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَهُوَ يَهْدِينِ} يريد أنه حين أتمّ خلقه ونفخ فيه الروح، عقب ذلك هدايته المتصلة التي لا تنقطع إلى كلّ ما يصلحه ويعنيه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أتى إبراهيم عليه السلام في هذه الأوصاف التي وصف الله عز وجل بها بالصفات التي المتصف بها يستحق الألوهية، وهي الأوصاف الفعلية التي تخص البشر، ومنها يجب أن يفهم ربه عز وجل وهذا حسن الأدب في العبارة، والكل من عند الله تعالى.
اعلم أنه تعالى لما حكى عنه أنه استثنى رب العالمين، حكى عنه أيضا ما وصفه به مما يستحق العبادة لأجله، ثم حكى عنه ما سأله عنه، أما الأوصاف فأربعة؛
أولها: قوله: {الذي خلقني فهو يهدين}. واعلم أنه سبحانه أثنى على نفسه بهذين الأمرين في قوله: {الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى} واعلم أن الخلق والهداية بهما يحصل جميع المنافع لكل من يصح الانتفاع عليه،... ولا شك أن الهداية إنما تحصل من الروح، فقد ظهر بهذه الآيات أن الخلق مقدم على الهداية...
ثم إنك إذا فتشت عن كل واحدة من مركبات هذا العالم الجسماني، ومفرداتها وجدت لها أشياء تلائمها وتكمل حالها وأشياء تنافرها وتفسد حالها، ووجدت فيها قوى جذابة للملائم دفاعة للمنافي، فقد ظهر أن صلاح الحال في هذه الأشياء لا يتم إلا بالخلق والهداية. أما الخلق فبتصييره موجودا بعد أن كان معدوما، وأما الهداية فبتلك القوى الجذابة للمنافع والدفاعة للمضار فثبت أن قوله: {خلقني فهو يهدين} كلمة جامعة حاوية لجميع المنافع في الدنيا والدين.
ثم ههنا دقيقة وهو أنه قال: {خلقني} فذكره بلفظ الماضي وقال: {يهدين} ذكره بلفظ المستقبل، والسبب في ذلك أن خلق الذات لا يتجدد في الدنيا، بل لما وقع بقي إلى الأمد المعلوم. أما هدايته تعالى فهي مما يتكرر كل حين وأوان سواء كان ذلك هداية في المنافع الدنيوية، وذلك بأن تحكم الحواس بتمييز المنافع عن المضار أو في المنافع الدينية، وذلك بأن يحكم العقل بتمييز الحق عن الباطل والخير عن الشر، فبين بذلك أنه سبحانه هو الذي خلقه بسائر ما تكامل به خلقه في الماضي دفعة واحدة، وأنه يهديه إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم شرع يصفه بما هم به عالمون من أنه على الضد الأقصى من كل ما عليه أصنامهم فقال: {الذي} ولما لم يكن أحد يدعي الخلق لم يحتج إلى ما يدل على الاختصاص فقال: {خلقني} أي أوجدني على هيئة التقدير والتصوير {فهو} أي فتسبب عن تفرده بخلقي أنه هو لا غيره {يهدين} أي إلى الرشاد، ولأنه لا يعلم باطن المخلوق ويقدر على كمال التصرف فيه غير خالقه، ولا يكون خالقه إلا سمعياً بصيراً ضاراً نافعاً، له الكمال كله، ولا شك أن الخلق للجسد، والهداية للروح، وبالخلق والهداية يحصل جميع المنافع، والإنسان له قالب من عالم الخلق، وقالب من عالم الأمر، وتركيب القالب مقدم كما ظهر بهذه الآية، ولقوله "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي "[الحجر: 29] وأمثال ذلك، وذكر الخلق بالماضي لأنه لا يتجدد في الدنيا، والهداية بالمضارع لتجددها وتكررها ديناً ودنيا.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم يأخذ إبراهيم -عليه السلام- في صفة ربه. رب العالمين. وصلته به في كل حال وفي كل حين. فنحس القربى الوثيقة، والصلة الندية، والشعور بيد الله في كل حركة ونأمة، وفي كل حاجة وغاية. (الذي خلقني فهو يهدين. والذي هو يطعمني ويسقين. وإذا مرضت فهو يشفين. والذي يميتني ثم يحيين. والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين).. ونستشعر من صفة إبراهيم لربه، واسترساله في تصوير صلته به، أنه يعيش بكيانه كله مع ربه. وأنه يتطلع إليه في ثقة، ويتوجه إليه في حب؛ وأنه يصفه كأنه يراه، ويحس وقع إنعامه وإفضاله عليه بقلبه ومشاعره وجوارحه.. والنغمة الرخية في حكاية قوله في القرآن تساعد على إشاعة هذا الجو وإلقاء هذا الظل، بالإيقاع العذب الرخي اللين المديد.. (الذي خلقني فهو يهدين).. الذي أنشأني من حيث يعلم ولا أعلم؛ فهو أعلم بماهيتي وتكويني، ووظائفي ومشاعري، وحالي ومآلي: (فهو يهدين) إليه، وإلى طريقي الذي أسلكه، وإلى نهجي الذي أسير عليه. وكأنما يحس إبراهيم -عليه السلام- أنه عجينة طيعة في يد الصانع المبدع، يصوغها كيف شاء، على أي صورة أراد. إنه الاستسلام المطلق في طمأنينة وراحة وثقة ويقين.
كأن الحق – تبارك وتعالى – يقول لهم: يا أغبياء، اعلموا أن للعبادة أسبابا وحيثيات، ويوضح إبراهيم عليه السلام حيثيات عبادة ربه- عز وجل – فيقول: {الذي خلقني فهو يهدين} أي: خلقني من عدم، وأمدني من عدم، وجعل لي قانون صيانة يحفظ حياتي، ويضمن سلامتي حين كلفني بشرعه: افعل كذا ولا تفعل كذا، وهو سبحانه لا ينتفع بشيء من هذا، بل النفع يعود علينا نحن، وهل فعلت الأصنام لكم شيئا من هذا؟ إذن: فهو وحده المستحق للعبادة.
وقوله سبحانه {فهو يهدين} أي: بقانون الصيانة الذي يشبه (الكتالوج) الذي يجعله البشر لصناعتهم؛ ليضمنوا سلامتها وأداءها لمهمتها على أكمل وجه، ولا بد أن يحدد لها المهمة قبل أن يشرع في صناعتها، وهل رأينا آلة صنعها صاحبها، ثم قال لنا: انظروا في أي شيء تستخدم هذه...
فإذا ما حدث خلل في هذه الآلة، فعليك بالنظر في هذا (الكتالوج) أو أن تهذب بها إلى المهندس المختص بها؛ لذلك إذا أردت أن تأخذ قانون صيانتك، فلا تأخذه إلا من صانعك وخالقك- عز وجل – ولا يجوز أن يخلق الله تعالى وتضع أنت لخلقة الله قانون صيانتها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فيبدأ بذكر نعمة الخلق والهداية فيقول: (الذي خلقني فهو يهدين) فقد هداني في عالم التكوين، ووفر لي وسائل الحياة المادية والمعنوية، كما هداني في عالم التشريع فأوحى إليّ وأرسل إليّ الكتاب السماوي... وذكر «الفاء» بعد نعمة الخلق، هو إشارة إلى أن الهداية لا تنفصل عن الخلق أبداً، وجملة (يهدين) الواردة بصيغة الفعل المضارع، دليل واضح على استمرار هدايته، وحاجة الإنسان إليه في جميع مراحل عمره! فكأن إبراهيم في كلامه هذا يريد أن يبيّن هذه الحقيقة، وهي إنّني كنت مع الله منذ أن خلقني، ومعه في جميع الأحوال، وأشعر بحضوره في حياتي، فهو وليي حيث ما كنت ويقلبني حيثما شاء!.