{ وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ } أي : وبقيت عليكم نعمة أخرى ، فادعوا الله فيها ، وهي أن ييسر الله لكم منزلا مباركا ، فاستجاب الله دعاءه ، قال الله : { وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } إلى أن قال : { قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ } الآية .
ولا يفصل هنا ما حدث للقوم بعد هذا الأمر . فقد قضي الأمر ، وتقرر : ( إنهم مغرقون )ولكنه يمضي في تعليم نوح - عليه السلام - كيف يشكر نعمة ربه ، وكيف يحمد فضله ، وكيف يستهديه طريقه :
( فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك ، فقل : الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين . وقل : رب أنزلني منزلا مباركا ، وأنت خير المنزلين ) . .
فهكذا يحمد الله ، وهكذا يتوجه إليه ، وهكذا يوصف - سبحانه - بصفاته ، ويعترف له بآياته . وهكذا يتأدب في حقه العباد ، وفي طليعتهم النبيون ، ليكونوا أسوة للآخرين .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقُل رّبّ أَنزِلْنِي مُنزَلاً مّبَارَكاً وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ وَإِن كُنّا لَمُبْتَلِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه نوح عليه السلام : وقل إذا سلمك الله وأخرجك من الفلك فنزلت عنها : رَبّ أَنْزِلْنِي مُنَزلاً من الأرض مُبارَكا وأَنْتَ خَيرُ من أنزل عباده المنازل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : مُنْزِلاً مُبارَكا قال : لنوح حين نزل من السفينة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله .
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : رَبّ أنْزِلْنِي مُنْزِلاً مُبارَكا بضم الميم وفتح الزاي ، بمعنى : أنزلني إنزالاً مباركا . وقرأه عاصم : «مَنْزِلاً » بفتح الميم وكسر الزاي ، بمعنى : أنزلني مكانا مباركا وموضعا .
ثم أمر بالدعاء في بركة المنزل ، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر «مَنزِلاً » بفتح الميم وكسر الزاي وهو موضع النزول ، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم «مُنزَلاً » وهو مصدر بمعنى الإنزال بضم الميم وفتح الزاي ، ويجوز أَن يراد موضع النزول{[8479]} .
جملة { وأنت خير المنزلين } في موضع الحال . وفيها معنى تعليل سؤاله ذلك .
وقرأ الجمهور { مُنَزلاً } بضم الميم وفتح الزاي وهو اسم مفعول من ( أنزله ) على حذف المجرور ، أي مُنزَلا فيه . ويجوز أن يكون مصدراً ، أي إنزالاً مباركاً . والمعنيان متلازمان . وقرأه أبو بكر عن عاصم بفتح الميم وكسر الزاي ، وهو اسم لمكان النزول .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه نوح عليه السلام: وقل إذا سلمك الله وأخرجك من الفلك فنزلت عنها:"رَبّ أَنْزِلْنِي مُنَزلاً" من الأرض "مُبارَكا وأَنْتَ خَيرُ "من أنزل عباده المنازل...
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: "رَبّ أنْزِلْنِي مُنْزِلاً مُبارَكا" بضم الميم وفتح الزاي، بمعنى: أنزلني إنزالاً مباركا. وقرأه عاصم: «مَنْزِلاً» بفتح الميم وكسر الزاي، بمعنى: أنزلني مكانا مباركا وموضعا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم علمه ربه أن يسأله الإنزال في منزل مبارك حين قال: {وقل ربي أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين}. ثم يحتمل سؤاله المنزل المبارك جميع الخيرات والحسنات وعمل الصالحات. ويحتمل سؤاله المنزل المبارك الموضع الذي فيه السعة والخصب على ما قاله بعض أهل التأويل: المبارك بالماء والشجر وغيره. فإن كان هذا ففيه دلالة إباحة سؤال السعة والخصب، والله أعلم.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
استجاب الله تعالى دعاءه حيث قال {اهبط بسلام منا وبركات عليك} وبارك فيهم بعد إنزالهم من السفينة حتى كان جميع الخلق من نسل نوح ومن كان معه في السفينة.
أحدهما: أن المراد هو نفس السفينة فمن ركبها خلصته مما جرى على قومه من الهلاك.
والثاني: أن المراد أن ينزله الله بعد خروجه من السفينة من الأرض منزلا مباركا والأول أقرب لأنه أمر بهذا الدعاء في حال استقراره في السفينة، فيجب أن يكون المنزل ذلك دون غيره.
ثم بين سبحانه بقوله: {وأنت خير المنزلين} أن الإنزال في الأمكنة قد يقع من غير الله كما يقع من الله تعالى وإن كان هو سبحانه خير من أنزل لأنه يحفظ من أنزله في سائر أحواله ويدفع عنه المكاره بحسب ما يقتضيه الحكم والحكمة.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
قلت: وبالجملة فالآية تعليم من الله عز وجل لعباده إذا ركبوا وإذا نزلوا أن يقولوا هذا، بل وإذا دخلوا بيوتهم وسلموا قالوا. وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا دخل المسجد قال: اللهم أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أشار له بهذا القول إلى السلامة بالحمل، أتبعه الإشارة إلى الوعد بإسكان الأرض فقال: {وقل رب أنزلني} في الفلك ثم في الأرض وفي كل منزل تنزلني به وتورثني إياه {منزلاً} موضع نزول، أو إنزالاً {مباركاً} أي أهلاً لأن يثبت فيه أو به. ولما كان الثناء أعظم مهيج على إجابة الدعاء، وكان التقدير، فأنت خير الحاملين، عطف عليه قوله: {وأنت خير المنزلين} لأنك تكفي نزيلك كل ملم، وتعطيه كل مراد.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أي أنزلني إنزالا فيه خير ونماء وبركة، بأن يثبت الله تعالى قلوب الذين آمنوا على الحق، وقد رأوا بأعينهم عاقبة الذين ظلموا أنفسهم بالكفر ومعاندة الحق، وقد بارك سبحانه من معه، فحمل منهم ذرية الخليقة فكان بحق الأب الثاني للإنسانية، وقد أثنى على ربه بما هو حقه، {وَأَنتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}، أي أنت الذي تنزل منازل أعلى ما يكون الإنزال المبارك.