ثم مشهد من مشاهد القيامة يتجلى فيه الإكرام والهوان ، في صورة واقع يشهد كأنه معروض للعيان :
هذا خصمان اختصموا في ربهم . فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، يصب من فوق رؤوسهم الحميم ، يصهر به ما في بطونهم والجلود ؛ ولهم مقامع من حديد ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها - من غم - أعيدوا فيها . وذوقوا عذاب الحريق . إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير .
إنه مشهد عنيف صاخب ، حافل بالحركة ، مطول بالتخييل الذي يبعثه في النفس نسق التعبير . فلا يكاد الخيال ينتهي من تتبعه في تجدده . .
هذه ثياب من النار تقطع وتفصل ! وهذا حميم ساخن يصب من فوق الرؤوس ، يصهر به ما في البطون والجلود عند صبه على الرؤوس ! وهذه سياط من حديد أحمته النار . . وهذا هو العذاب يشتد ، ويتجاوز الطاقة ، فيهب ( الذين كفروا )من الوهج والحميم والضرب الأليم يهمون بالخروج من هذا( الغم )وها هم أولاء يردون بعنف ، ويسمعون التأنيب : ( وذوقوا عذاب الحريق ) . .
ويظل الخيال يكرر هذه المشاهد من أولى حلقاتها إلى أخراها ، حتى يصل إلى حلقة محاولة الخروج والرد العنيف ، ليبدأ في العرض من جديد !
ولا يبارح الخيال هذا المشهد العنيف المتجدد إلا أن يلتفت إلى الجانب الآخر ، الذي يستطرد السياق إلى عرضه . فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم . فأما الذين كفروا به فقد كنا نشهد مصيرهم المفجع منذ لحظة ! وأما الذين آمنوا فهم هنالك في الجنات تجري من تحتها الأنهار . وملابسهم لم تقطع من النار ، إنما فصلت من الحرير . ولهم فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ . وقد هداهم الله إلى الطيب من القول ، وهداهم إلى صراط الحميد . فلا مشقة حتى في القول أو في الطريق . . والهداية إلى الطيب من القول ، والهداية إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم . نعمة الطمأنينة واليسر والتوفيق .
وتلك عاقبة الخصام في الله . فهذا فريق وذلك فريق . . فليتدبر تلك العاقبة من لا تكفيه الآيات البينات ، ومن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير . .
وقوله : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } : قال الأعمش ، عن أبي ظِبْيان ، عن سلمان قال : النار سوداء مظلمة ، لا يضيء لهبها ولا جمرها ، ثم قرأ : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا }
وقال زيد بن أسلم في هذه الآية : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } قال : بلغني أن أهل النار في النار لا يتنفسون .
وقال الفُضيل{[20095]} بن عياض : والله ما طمعوا في الخروج ، إن الأرجل لمقيدة ، وإن الأيدي لموثقة ، ولكن يرفعهم لهبها ، وتردهم{[20096]} مقامعها .
وقوله : { وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } كقوله { وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [ السجدة : 20 ] ومعنى الكلام : أنهم يهانون بالعذاب قولا وفعلا .
وقوله : كُلّما أرَادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمّ أُعِيدُوا فِيها يقول : كلما أراد هؤلاء الكفار الذين وصف الله صفتهم الخروج من النار مما نالهم من الغمّ والكرب ، ردّوا إليها . كما :
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن أبي ظبيان ، قال : النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها ، ثم قرأ : كُلّما أرَادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنها مِنْ غَمّ أُعِيدُوا فِيها وقد ذكر أنهم يحاولون الخروج من النار حين تجيش جهنم فتلقي من فيها إلى أعلى أبوابها ، فيريدون الخروج فتعيدهم الخزان فيها بالمقامع ، ويقولون لهم إذا ضربوهم بالمقامع : ذُوقُوا عَذَابَ الحَرِيق .
وعني بقوله : ذُوقُوا عَذَابَ الخَرِيق ويقال لهم ذوقوا عذاب النار ، وقيل عذاب الحريق والمعنى : المحرق ، كما قيل : العذاب الأليم ، بمعنى : المؤلم .
{ كلما أرادوا أن يخرجوا منها } من النار . { من غم } من عمومها بدل من الهاء بإعادة الجار . { أعيدوا فيها } أي فخرجوا أعيدوا لأن الإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ، وقيل يضربهم لهيب النار فيرفعهم إلى أعلاها فيضربون بالمقامع فيهوون فيها . { وذوقوا } أي وقيل لهم ذوقوا . { عذاب الحريق } أي النار البالغة في الإحراق .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"كُلّما أرَادُوا أنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمّ أُعِيدُوا فِيها" يقول: كلما أراد هؤلاء الكفار الذين وصف الله صفتهم الخروج من النار مما نالهم من الغمّ والكرب، ردّوا إليها...
وعني بقوله: "ذُوقُوا عَذَابَ الحرِيق "ويقال لهم ذوقوا عذاب النار، وقيل "عذاب الحريق" والمعنى: المحرق، كما قيل: العذاب الأليم، بمعنى: المؤلم.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ}... والذوق: حاسة يحصل منها إدراك الطعم، وهو ها هنا توسّع، والمراد به إدراكهم الآلام.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} والحريق: الغليظ من النار المنتشر العظيم الإهلاك.
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
والمراد إعادتهم إلى معظم النار لا أنهم ينفصلون عنها بالكلية ثم يعودون إليها.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
... ومعنى الكلام: أنهم يهانون بالعذاب قولا وفعلا.
السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني 977 هـ :
عن الحسن قال كان عمر يقول: أكثروا ذكر النار؛ فإنّ حرّها شديد، وقعرها بعيد، وإنّ مقامعها من حديد.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} فلا يفتر عنهم العذاب، ولا هم ينظرون، ويقال لهم توبيخا: {ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي: المحرق للقلوب والأبدان.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الحريق: النار الضخمة المنتشرة. وهذا القول إهانة لهم فإنهم قد علموا أنهم يذوقونه.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{وذوقوا عذاب الحريق} أي ويقال لهم ذوقوا، وعبر "بالذوق "الذي هو في الأصل الإحساس بالطعم عن الإحساس بألم الحريق، إمعانا في تبكيتهم على ما أصروا عليه في الدنيا من استهتار واستهزاء، وعناد وعداء.
الحق- سبحانه وتعالى- يصور حال أهل النار وما هم فيه من العذاب ومن اليأس في أن يخفف عنهم، فإذا ما حاولوا الخروج من غم العذاب جاءتهم هذه السياط فأعادتهم حيث كانوا، والإنسان قد يتعود على نوع من العذاب فيهون عليه الأمر، كالمسجون مثلا الذي يضرب بالسياط على ظهره، فبعد عدة ضربات يفقد الإحساس ولا يؤثر فيه ضرب بعد ذلك. ففي إعادتهم تيئيس لهم بعد أن طمعوا في النجاة، وما أشد اليأس بعد الطمع على النفس، لذلك يقولون: لا أفجع من يأس مقمع، بعد أمل مقمع. كما يقول تعالى: {وإن يستغيثوا يغاثوا.. (29)} [الكهف]: ساعة يسمعون الإغاثة يأملون ويستبشرون، فيأتيهم اليأس في {بماء كالمهل يشوي الوجوه.. (29)} [الكهف]. وما حاق بهم من العذاب كان لا بد أن تتحدث عن المقابل، عن المؤمنين ليجري العقل مقارنة بين هذا وذاك، فيزداد المؤمن تشبثا بالإيمان ونفرة من الكفر، وكذلك الكافر ينتبه لعاقبة كفره فيزهد فيه ويرجع إلى الإيمان، وهكذا ينتفع الجميع بهذه المقابلة، وكأن الحق سبحانه وتعالى يعطينا في آيات القرآن وفي هذه المقابلات وسائل النجاة والرحمة.