الإنسان عامة ، بأفراده جملة ، وبأجياله كافة . . لما يقض ما أمره . . إلى آخر لحظة في حياته . وهو الإيحاء الذي يلقيه التعبير بلما . كلا إنه لمقصر ، لم يؤد واجبه . لم يذكر أصله ونشأته حق الذكرى . . ولم يشكر خالقه وهاديه وكافله حق الشكر . ولم يقض هذه الرحلة على الأرض في الاستعداد ليوم الحساب والجزاء . . هو هكذا في مجموعه . فوق أن الكثرة تعرض وتتولى ، وتستغني وتتكبر على الهدى !
وقوله : ( كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) قال ابن جرير : يقول : كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر ؛ من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله ، ( لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) يقول : لم يُؤد ما فُرض عليه من الفرائض لربه عز وجل .
ثم روى - هو وابن أبي حاتم - من طريق ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قوله : ( كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) قال : لا يقضي أحد أبدا كل ما افتُرض عليه . وحكاه البغوي ، عن الحسن البصري ، بنحو من هذا . ولم أجد للمتقدمين فيه كَلامًا سوى هذا . والذي يقع لي في معنى ذلك - والله أعلم - أن المعنى : ( ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ) أي : بعثه ، ( كَلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ) [ أي ]{[29709]} لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة ، ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب تعالى{[29710]} له أن سيُوجَدُ منهم ، ويخرج إلى الدنيا ، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا ، فإذا تناهى ذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم .
وقد روى ابنُ أبي حاتم ، عن وهب بن مُنَبّه قال : قال عُزَير ، عليه السلام : قال الملك الذي جاءني : فإن القبور هي بطنُ الأرض ، وإن الأرض هي أم الخلق ، فإذا خلق الله ما أراد أن يخلق وتمت هذه القبورُ التي مَدّ الله لها ، انقطعت الدنيا ومات من عليها ، ولفظت الأرض ما في جوفها ، وأخرجت القبورُ ما فيها ، وهذا شبيه بما قلنا من معنى الآية ، والله - سبحانه وتعالى أعلم بالصواب .
وقوله : كَلاّ لَمّا يَقْضِ ما أمَرَهُ يقول تعالى ذكره : كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر ، من أنه قد أدّى حقّ الله عليه ، في نفسه وماله ، لمّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ : لم يؤدّ ما فرض عليه من الفرائض ربّه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : لَمّا يَقْضِ ما أمَرَهُ قال : لا يقضي أحد أبدا ما افُتِرض عليه . وقال الحرث : كلّ ما افترض عليه .
تفسير هذه الآية معضل وكلمات المفسرين والمتأوِلين فيها بعضها جَافَّ المَنال ، وبعضها جاففٍ عن الاستعمال . ذلك أن المعروف في { كلاَّ } أنه حرف ردع وزجر عن كلام سابق أو لاحق ، وليس فيما تضمنه ما سبقها ولا فيما بعدها ما ظاهره أن يُزجر عنه ولا أن يُبطل ، فتعين المصير إلى تأويل مورد { كَلاَّ } .
فأما الذين التزموا أن يكون حرف { كَلاَّ } للردع والزجر وهم الخليل وسيبويه وجمهور نحاة البصرة ويجيزون الوقف عليها كما يجيزون الابتداء بها ، فقد تأولوا هذه الآية وما أشبهها بتوجيه الإِنكار إلى ما يُومىء إليه الكلام السابق أو اللاحق دون صريحه ولا مضمونه .
فمنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما قبل { كَلاَّ } ممّا يومىء إليه قوله تعالى : { ثم إذا شاء أنشره } [ عبس : 22 ] ، أي إذا شاء الله ، إذ يومىء إلى أن الكافر ينكر أن ينشره الله ويعتلَّ بأنه لم ينشر أحداً منذ القدم إلى الآن . وهذا الوجه هو الجاري على قول البصريين كما تقدم .
وموقع { كَلاَّ } على هذا التأويل موقع الجواب بالإِبطال ، وموقع جملة : { لما يقض ما أمره } موقع العلة للإِبطال ، أي لو قَضَى ما أمره الله به لعِلم بطلان زعمه أنه لا ينشر .
وتأوله في « الكشاف » بأنه : « ردْع للإِنسان عما هو عليه » أي مِمَّا ذكر قبله من شدة كفره واسترساله عليه دون إقلاع ، يريد أنه زجر عن مضمون : { ما أكفره } [ عبس : 17 ] .
ومنهم من يجعل الردع متوجهاً إلى ما بعد { كلاّ } مما يومىء إليه قوله تعالى : { لما يقض ما أمره } أي ليس الأمر كما يقول هذا الإِنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله الذي نبهه إليه بدعوة الرسل وبإيداع قوة التفكير فيه ، ويُتسروح هذا من كلام روي عن مجاهد ، وهو أقرب لأن ما بعد { كَلاَّ } لما كان نفياً ناسب أن يُجعل { كلاّ } تمهيداً للنفي .
وموقع { كلاّ } على هذا الوجه أنها جزء من استئناف .
وموقع جملة : { لما يقض ما أمره } استئناف بياني نشأ عن مضمون جملة : { من أي شيء خلقه } إلى قوله : { أنشره } [ عبس : 18 22 ] ، أي إنما لم يَهتد الكافرُ إلى دلالة الخلق الأول على إمكاننِ الخلق الثاني ، لأنه لم يقض حق النظر الذي أمره الله .
وأما الذين لم يلتزموا معنى الزجر في { كلاّ } وهم الكسائي القائل : تكون { كلاّ } بمعنى حقاً ، ووافقه ثعلب وأبو حاتم السجستاني القائل : تكون { كلا } بمعنى ( ألاّ ) الاستفتاحية .
والنضر بن شميل والفرّاء القائلان : تكون { كلاّ } حَرفَ جواب بمعنى نعم . فهؤلاء تأويل الكلام على رأيهم ظاهر .
وعن الفراء { كلاّ } تكون صلة ( أي حرفاً زائداً للتأكيد ) كقولك : كلاَّ ورب الكعبة ا ه . وهذا وجه إليه ولا يتأتى في هذه الآية .
فالوجه في موقع { كلاّ } هنا أنه يجوز أن تكون زجراً عما يفهم من قوله : { ثم إذا شاء أنشره } [ عبس : 22 ] المكنى به عن فساد استدلالهم بتأخيره على أنه لا يقع فيكون الكلام على هذا تأكيداً للإِبطال الذي في قوله : { كلا إنها تذكرة } [ عبس : 11 ] باعتبار معناه الكنائي إن كان صريح معناه غيرَ باطل فقوله : { إذا شاء } مؤذن بأنه الآن لم يشأ وذلك مؤذن بإبطال أن يقع البعث عندما يسألون وقوعه ، أي أنا لا نشاء إنشارهم الآن وإنما ننشرهم عندما نشاء ممّا قدرنا أجله عند خلق العالم الأرضي .
وتكون جملة : { لما يقض ما أمره } تعليلاً للردع ، أي الإنسان لم يستتم ما أجل الله لبقاء نوعه في هذا العالم من يوم تكوينه فلذلك لا ينشر الآن ، ويكون المراد بالأمر في قوله : { ما أمره } أمر التكوين ، أي لم يستتم ما صدر به أمر تكوينه حين قيل لآدم : { ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين } [ البقرة : 36 ] .
ويجوز أن يكون زجراً عما أفاده قوله : { لما يقض ما أمره } وقدمت { كلاّ } في صدر الكلام الواردة لإبطاله للاهتمام بمبادرة الزجر .
وتقدم الكلام في { كلاّ } في سورة مريم وأحَلْتُ هنالك على ما هنا .
و { لَمَّا } حرف نفي يدل على نفي الفعل في الماضي مثل ( لَمْ ) ويزيد بالدلالة على استمرار النفي إلى وقت التكلم كقوله تعالى : { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } [ الحجرات : 14 ] .
والمقصود أنه مستمر على عدم قضاء ما أمره الله مِما دعاه إليه .
والقضاء : فعل ما يجب على الإنسان كاملاً لأن أصل القضاء مشتق من الإتمام فتضمن فعلاً تاماً ، أي لم يزل الإنسان الكافر معرضاً عن الإيمان الذي أمره الله به ، وعن النظر في خلقه من نطفة ثم تطوره أطواراً إلى الموت قال تعالى : { فلينظر الإنسان مما خلق } [ الطارق : 5 ] ، وما أمره من التدَبر في القرآن ودلائله ومن إعمال عقله في الاستدلال على وحدانية الله تعالى ونفي الشريك عنه . ومن الدلائل نظره في كيفية خلقه فإنها دلائل قائمة بذاته فاستحق الردع والزجر .
والضمير المستتر في { أمره } عائد إلى ما عادت إليه الضمائر المستترة في ( خلقه ، وقدره ، ويسره ، وأماته ، وأقبره ، وأنشره ) .