{ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } أي : بين أهل النار وأهل الجنة ، بأن قال : { أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ } أي : بُعْدُه وإقصاؤه عن كل خير { عَلَى الظَّالِمِينَ } إذ فتح اللّه لهم أبواب رحمته ، فصدفوا أنفسهم عنها ظلما ، وصدوا عن سبيل اللّه بأنفسهم ، وصدوا غيرهم ، فضلوا وأضلوا .
واللّه تعالى يريد أن تكون مستقيمة ، ويعتدل سير السالكين إليه ، { و } هؤلاء يريدونها { عِوَجًا } منحرفة صادة عن سواء السبيل ، { وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ } وهذا الذي أوجب لهم الانحراف عن الصراط ، والإقبال على شهوات النفوس المحرمة ، عدم إيمانهم بالبعث ، وعدم خوفهم من العقاب ورجائهم للثواب ، ومفهوم هذا النداء أن رحمة اللّه على المؤمنين ، وبرَّه شامل لهم ، وإحسانَه متواتر عليهم .
( الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً ، وهم بالآخرة كافرون ) . .
فهم الذين يصدون عن سبيل الله ، ويريدون الطريق عوجاً لا استقامة فيه ، وهم بالآخرة كافرون
وفي هذا الوصف : ( ويبغونها عوجاً ) . . إيحاء بحقيقة ما يريده الذين يصدون عن سبيل الله . إنهم يريدون الطريق العوجاء ؛ ولا يريدون الطريق المستقيم . يريدون العوج ولا يريدون الاستقامة . فالاستقامة لها صورة واحدة : صورة المضي على طريق الله ونهجه وشرعه . وكل ما عداه فهو أعوج ؛ وهو إرادة للعوج . وهذه الإرادة تلتقي مع الكفر بالآخرة . فما يؤمن بالآخرة أحد ، ويستيقن أنه راجع إلى ربه ؛ ثم يصد عن سبيل الله ، ويحيد عن نهجه وشرعه . . وهذا هو التصوير الحقيقي لطبيعة النفوس التي تتبع شرعاً غير شرع الله . التصوير الذي يجلو حقيقة هذه النفوس ويصفها الوصف الداخلي الصحيح .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالاَخِرَةِ كَافِرُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه : إن المؤذّن بين أهل الجنة والنار يقول : أن لعنة الله على الظالمين الذين كفروا بالله وصدّوا عن سبيله . ويَبْغُونَها عِوَجا يقول : حاولوا سبيل الله ، وهو دينه ، أن يغيروه ويبدلوه عما جعله الله له من استقامته . وَهُمْ بالاَخِرَةِ كافِرُونَ يقول : وهم لقيام الساعة والبعث في الاَخرة والثواب والعقاب فيها جاحدون . والعرب تقول للميل في الدين والطريق : «عِوَج » ، بكسر العين ، وفي ميل الرجل على الشيء والعطف عليه : عاج إليه يَعُوج عِيَاجا وعَوَجا وعِوَجا ، بالكسر من العين والفتح ، كما قال الشاعر :
قِفَا نَبْكِي مَنازِلَ آلِ لَيْلَى ***عَلى عِوَجِ إلَيْها وَانْثِناءِ
ذكر الفرّاء أن أبا الجراح أنشده إياه بكسر العين من عِوج فأما ما كان خلقة في الإنسان ، فإنه يقال فيه : عَوج ساقه ، بفتح العين .
و { يصدون } معناه يعرضون ، و «السبيل » الطريق والمنهج ويذكر ويؤنث وتأنيثها أكثر ، { ويبغونها } معناه : يطلبونها أو يطلبون لها ، فإن قدرت يطلبونها ف { عوجاً } نصب على الحال ، ويصح أن يكون من الضمير العائد على السبيل أي معوجه ، ويصح أن يكون من ضمير الجماعة في { يبغونها } أي معوجين ، وإن قدرت { يبغونها } يطلبون لها وهو ظاهر تأويل الطبري رحمه الله ف { عوجاً } مفعول بيبغون ، والعِوج بكسر العين في الأمور والمعاني ، والعَوج بفتح العين في الأجرام والمتنصبات .
المراد بالظّالمين : المشركون ، وبالصدّ عن سبيل الله : إمّا تعرّض المشركين للراغبين في الإسلام بالأذى والصّرف عن الدّخول في الدّين بوجوه مختلفة ، وسبيل الله ما به الوصول إلى مرضاته وهو الإسلام ، فيكون الصدّ مراداً به المتعدي إلى المفعول . وإما إعراضهم عن سماع دعوة الإسلام وسماع القرآن ، فيكون الصدّ مراداً به القاصر ، الذي قيل : إنّ مضارعه بكسر الصّاد ، أو إن حق مضارعه كسر الصّاد ، إذ قيل لم يسمع مكسور الصّاد ، وإن كان القياس كَسْر الصّاد في اللاّزم وضمَها في المتعدي .
والضّمير المؤنّث في قوله : { ويبغونها } عائد إلى { سبيل الله } . لأنّ السّبيل يذكّر ويؤنّث قال تعالى : { قل هذه سبيلي } [ يوسف : 108 ] وقال : { وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً } [ الأعراف : 146 ] .
والعِوَج : ضدّ الاستقامة ، وهو بفتح العين في الأجسام : وبكسر العين في المعاني . وأصله أن يجوز فيه الفتح والكسر . ولكن الاستعمال خصّص الحقيقة بأحد الوجهين والمجازَ بالوجه الآخر ، وذلك من محاسن الاستعمال ، فالإخبار عن السبيل ( عِوج ) إخبار بالمصدر للمبالغة ، أي ويرومون ويحاولون إظهار هذه السّبيل عوجاء ، أي يختلقون لها نقائص يموّهونها على النّاس تنفيراً عن الإسلام كقولهم : { هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل مُمَزّق إنّكم لفي خَلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة } [ سبأ : 7 ، 8 ] ، وتقدّم تفسيره عند قوله تعالى : { يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً } في سورة آل عمران ( 99 ) .
وورد وصفهم بالكفر بطريق الجملة الاسميّة في قوله : { وهم بالآخرة كافرون } للدّلالة على ثبات الكفر فيهم وتمكّنه منهم ، لأنّ الكفر من الاعتقادات العقليّة التي لا يناسبها التّكرّر ، فلذلك خولف بينه وبين وصفهم بالصدّ عن سبيل الله وبغي إظهار العِوَج فيها ، لأنّ ذَيْنك من الأفعال القابلة للتّكرير ، بخلاف الكفر فإنّه ليس من الأفعال ، ولكنّه من الانفعالات ، ونظير ذلك قوله تعالى : { يرزق من يشاء وهو القوي العزيز } [ الشورى : 19 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعت أعمالهم الخبيئة، فقال: {الذين يصدون عن سبيل الله}، يعني دين الإسلام، {ويبغونها عوجا}، ويريدون بملة الإسلام زيفا، {وهم بالآخرة}، يعني بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، {كافرون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: إن المؤذّن بين أهل الجنة والنار يقول: أن لعنة الله على الظالمين الذين كفروا بالله وصدّوا عن سبيله. "ويَبْغُونَها عِوَجا "يقول: حاولوا سبيل الله، وهو دينه، أن يغيروه ويبدلوه عما جعله الله له من استقامته. "وَهُمْ بالآخِرَةِ كافِرُونَ" يقول: وهم لقيام الساعة والبعث في الآخرة والثواب والعقاب فيها جاحدون...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الصّد يكون منع غيره، ويكون منع نفسه. قال الحسن: سبيل الله دين الله الذي ارتضى لعباده، وأمرهم بذلك، وإلى ذلك دعا رسله.
وقوله تعالى: {ويبغونها عوجا} أي يبغون الدّين الذي فيه عوج، وهو دين الشيطان كقوله تعالى: {ولا تتّبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله} [الأنعام: 153] فالعوج هو التفرق الذي ذكر في تلك الآية. وأمكن أن يكون قوله {ويبغونها عوجا} أي طعنا في دين الله. وقد كانوا يبغون طعنا في دين الله...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ}: يصرفون. {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً}: يطلبونها زيغاً وميلاً...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... الصد: هو العدول عن الشيء عن قلى.
وقوله "يبغونها عوجا "معنى يبغونها: يطلبون لها العوج بالشُّبَه التي يلبسون بها ويوهمون أنها تقدح فيها، وأنها معوجة عن الحق بتناقضها.
...الصفة الثانية: قوله: {الذين يصدون عن سبيل الله} ومعناه: أنهم يمنعون الناس من قبول الدين الحق، تارة بالزجر والقهر، وأخرى بسائر الحيل.
والصفة الثالثة: قوله: {ويبغونها عوجا} والمراد منه إلقاء الشكوك والشبهات في دلائل الدين الحق.
والصفة الرابعة: قوله: {وهم بالآخرة كافرون}. واعلم أنه تعالى لما بين أن تلك اللعنة إنما أوقعها ذلك المؤذن على الظالمين الموصوفين بهذه الصفات الثلاثة، كان ذلك تصريحا بأن تلك اللعنة ما وقعت إلا على الكافرين...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة، حتى لا يتبعها أحد...
وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون، أي: جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به. فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل؛ لأنهم لا يخافون حسابًا عليه ولا عقابًا، فهم شر الناس أعمالا وأقوالا...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم وصف هؤلاء الظالمين بقوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} تقدم أن صد يصد يجيء لازما بمعنى يعرض ويمتنع عن الشيء ومتعديا بمعنى يصد غيره ويصرفه عنه، وإن الإيجاز في مثل هذا التعبير يقتضي الجمع بينهما أي الذين يعرضون عن سلوك سبيل الله الموصلة إلى مرضاته وكرامته وثوابه ويضلون الناس عنها، ويمنعونهم من سلوكها، ويبغونها معوجة أو ذات عوج أي غير مستوية ولا مستقيمة حتى لا يسلكها أحد...
وأما قوله تعالى {وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُون} فهو خاص بمنكري البعث من أولئك الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهو شر تلك الفرق كلها أي وهم على ضلالتهم وإضلالهم كافرون بالآخرة كفرا راسخا قد صار صفة من صفاتهم فلا يخافون عقابا على إجرامهم فيتوبوا منه، وتقديم الجار والمجرور (بالآخرة) على متعلقة للاهتمام به فإن أصل كفرهم قد علم مما قبله، وهذا النوع منه له تأثير خاص في إصرارهم على ما أسند إليهم، وقد غفل عن هذا من قال إن التقديم لأجل رعاية الفاصلة.
ومن المعلوم أن المؤذن بلعن هؤلاء في الآخرة يصفهم بالظلم ويسند إليهم الصد عن سبيل الله وبغيها عوجا بصيغة المضارع ويصفهم بالكفر بالآخرة في الآخرة بعد أن زال الكفر بها، بعين اليقين فيها، وفات زمن الصد عنها وبغيها عوجا. والنكتة في هذا تصوير حالهم التي كانوا عليها في الدنيا وترتب عليها ما صاروا إليه في الآخرة. ليتذكروها هم وكل من سمع التأذين بها، ويعلموا عدل الله بعقابهم عليها، وليعتبر بها في الدنيا من يتصور حالهم هذه. فكانت البلاغة أن يعدل هنا عن صيغة الماضي إلى صيغة الحال حتى يخيل أنه هو الواقع عند إطلاق الكلام، كما كانت البلاغة في العدول عن صيغة الاستقبال في تحاور أهل الجنة وأهل النار إلى صيغة الماضي لإثبات القطع به وتحقق وقوعه. ويجوز أن يكون وصفهم بما ذكر مستأنف من كلام الله تعالى لا من كلام المؤذن.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
في هذا الوصف: (ويبغونها عوجاً).. إيحاء بحقيقة ما يريده الذين يصدون عن سبيل الله. إنهم يريدون الطريق العوجاء؛ ولا يريدون الطريق المستقيم. يريدون العوج ولا يريدون الاستقامة. فالاستقامة لها صورة واحدة: صورة المضي على طريق الله ونهجه وشرعه. وكل ما عداه فهو أعوج؛ وهو إرادة للعوج. وهذه الإرادة تلتقي مع الكفر بالآخرة. فما يؤمن بالآخرة أحد، ويستيقن أنه راجع إلى ربه؛ ثم يصد عن سبيل الله، ويحيد عن نهجه وشرعه.. وهذا هو التصوير الحقيقي لطبيعة النفوس التي تتبع شرعاً غير شرع الله. التصوير الذي يجلو حقيقة هذه النفوس ويصفها الوصف الداخلي الصحيح...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
...والعِوَج: ضدّ الاستقامة، وهو بفتح العين في الأجسام: وبكسر العين في المعاني...
... وورد وصفهم بالكفر بطريق الجملة الاسميّة في قوله: {وهم بالآخرة كافرون} للدّلالة على ثبات الكفر فيهم وتمكّنه منهم، لأنّ الكفر من الاعتقادات العقليّة التي لا يناسبها التّكرّر، فلذلك خولف بينه وبين وصفهم بالصدّ عن سبيل الله وبغي إظهار العِوَج فيها، لأنّ ذَيْنك من الأفعال القابلة للتّكرير، بخلاف الكفر فإنّه ليس من الأفعال، ولكنّه من الانفعالات...