ولكن لما كان الله ولي عباده المؤمنين وناصرهم ، بيَّن لهم ما اشتملوا عليه من الضلال والإضلال ، ولهذا قال : { وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا } أي : يتولى أحوال عباده ويلطف بهم في جميع أمورهم ، وييسر لهم ما به سعادتهم وفلاحهم . { وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا } ينصرهم على أعدائهم ويبين لهم ما يحذرون منهم ويعينهم عليهم . فولايته تعالى فيها حصول الخير ، ونصره فيه زوال الشر .
وقوله { والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } جملة معترضة للتأكيد والتحذير .
أى : والله - تعالى - أعلم أعدائكم منكم - أيها المؤمنون - وقد أخبركم بأحوالهم وبما يبيتون لكم من شرور فاحذروهم ولا تلتفتوا إلى أقوالهم وأعدوا العدة لتأديبهم دفاعا عن دينكم وعقيدتكم .
وقوله { وكفى بالله وَلِيّاً وكفى بالله نَصِيراً } تذييل قصد به غرس الطمأنينة فى نفوس المؤمنين بأن العاقبة لهم .
أى : { وكفى بالله وَلِيّاً } يتولى أموركم ، ويصلح بالكم ، { وكفى بالله نَصِيراً } يدفع عنكم مكرهم وشرورهم ؛ وما دام الأمر كذلك فاكتفوا بولايته ونصرته . واعتصموا بحبله ، وأطيعوا أمره ، ولا تكونوا فى ضيق من مكر أعدائكم فإن الله ناصركم عليهم بفضله وإحسانه .
وقوله { وكفى } فعل ماض . ولفظ الجلالة فاعل والباء مزيدة فيه لتأكيد الكافية . ووليا ونصيرا منصوبان على التمييز . وقيل على الحال .
وكرر - سبحانه - الفعل كفى لإِلقاء الطمأنينة فى قلوب المؤمنين ، لأن التكرار فى مثل هذا المقام يكون أكثر تأثيرا فى القلب ، وأشد مبالغة فيما سيق الكلام من أجله .
فكأنه - سبحانه - يقول لهم : اكتفوا بولاية الله ونصرته ، وكفاكم الله الولاية والنصرة والمعونة . ومن كان الله كافيه نصره على عدوه فاطمئنوا ولا تخافوا .
وقوله : { والله أعلم بأعدائكم } خبر في ضمنه التحذير منهم ، و في قوله : { وكفى بالله } في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض{[4086]} ، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في لفظ الخبر ، أي اكتفوا بالله ، فالباء تدل على المراد من ذلك ، { ولياً } فعيلاً ، و { نصيراً } كذلك ، من الولاية والنصر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{والله أعلم بأعدائكم}: بعداوتهم إياكم، يعني اليهود.
{وكفى بالله وليا}: فلا ولى أفضل من الله عز وجل.
{وكفى بالله نصيرا}: فلا ناصر أفضل من الله جل ذكره.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
ثم أخبر الله جلّ ثناؤه عن عداوة هؤلاء اليهود الذين نهى المؤمنين أن يستنصحوهم في دينهم إياهم، فقال جلّ ثناؤه: {وَاللّهُ أعْلَمُ بأعْدَائِكُمْ}: والله أعلم منكم بعداوة هؤلاء اليهود أيها المؤمنون، يقول: فانتهوا إلى طاعتي عما نهيتكم عنه من استنصاحهم في دينكم، فإني أعلم بما هم عليه لكم من الغشّ والعداوة والحسد وأنهم إنما يبغونكم الغوائل، ويطلبون أن تضلوا عن محجة الحقّ فتهلكوا.
{وكَفَى باللّهِ وَليّا وكَفَى باللّهِ نَصِيرا}: فبالله أيها المؤمنون فثقوا، وعليه فتوكلوا، وإليه فارغبوا دون غيره، يكفكم مهمكم وينصركم على أعدائكم. {وكَفَى باللّهِ وَليّا}: وكفاكم وحسبكم بالله ربكم وليا يليكم ويلي أموركم بالحياطة لكم والحراسة من أن يستفزّكم أعداؤكم عن دينكم أو يصدّوكم عن اتباع نبيكم. {وكَفَى باللّهِ نَصِيرا}: وحسبكم بالله ناصرا لكم على أعدائكم وأعداء دينكم، وعلى من بغاكم الغوائل، وبغى دينكم العوج.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والله أعلم بأعدائكم}: كأنهم والله أعلم يطلبون موالاة المؤمنين ويظهرون لهم الموافقة، فنهى الله تعالى المؤمنين عن موالاتهم كقوله تعالى: {لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم ح بالا ودوا عنتم} فأخبر الله سبحانه وتعالى: المؤمنين انه أعلم بأعدائكم منكم. ويحتمل أن يكون المؤمنون استنصروهم، واستعانوا بهم في أمر، فاخبر عز وجل، انهم أعداؤكم، وهو أعلم بهم.
ثم قال: {وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا} أي كفى به وليا ومعينا، وكفى به ناصرا. ويحتمل قوله: وكفى بالله مما أعطاكم، أي: لا ولي أفضل من الله تعالى ولا ناصر أفضل منه، منه البراهين والحجج والله أعلم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{والله أَعْلَمُ} منكم {بِأَعْدَائِكُمْ} وقد أخبركم بعداوة هؤلاء، وأطلعكم على أحوالهم وما يريدون بكم؛ فاحذروهم ولا تستنصحوهم في أموركم ولا تستشيروهم. {وكفى بالله وَلِيّاً وكفى بالله نَصِيراً} فثقوا بولايته ونصرته دونهم. أو لا تبالوا بهم، فإن الله ينصركم عليهم ويكفيكم مكرهم.
{والله أعلم بأعدائكم}: هو سبحانه أعلم بكنه ما في قلوبهم وصدورهم من العداوة والبغضاء.
{وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا} والمعنى أنه تعالى لما بين شدة عداوتهم للمسلمين، بين أن الله تعالى ولي المسلمين وناصرهم، ومن كان الله وليا له وناصرا له لم تضره عداوة الخلق، وفي الآية سؤالات: السؤال الأول: ولاية الله لعبده عبارة عن نصرته له، فذكر النصير بعد ذكر الولي تكرارا. والجواب: أن الولي المتصرف في الشيء، والمتصرف في الشيء لا يجب أن يكون ناصرا له فزال التكرار.
السؤال الثاني: لمَ لمْ يقل: وكفى بالله وليا ونصيرا؟ وما الفائدة في تكرير قوله: {وكفى بالله}. والجواب: أن التكرار في مثل هذا المقام يكون أشد تأثيرا في القلب وأكثر مبالغة...
السؤال الثالث: ما فائدة الباء في قوله: {وكفى بالله وليا}. والجواب: ذكروا وجوها، الأول: لو قيل: كفى الله، كان يتصل الفعل بالفاعل. ثم ههنا زيدت الباء إيذانا أن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره في الرتبة وعظم المنزلة. الثاني: قال ابن السراج: تقدير الكلام: كفى اكتفاؤك بالله وليا، ولما ذكرت «كفى» دل على الاكتفاء، لأنه من لفظه، كما تقول: من كذب كان شرا له، أي كان الكذب شرا له، فأضمرته لدلالة الفعل عليه. الثالث: يخطر ببالي أن الباء في الأصل للإلصاق، وذلك إنما يحسن في المؤثر الذي لا واسطة بينه وبين التأثير، ولو قيل: كفى الله، دل ذلك على كونه تعالى فاعلا لهذه الكفاية، ولكن لا يدل ذلك على أنه تعالى يفعل بواسطة أو بغير واسطة، فإذا ذكرت حرف الباء دل على أنه يفعل بغير واسطة، بل هو تعالى يتكفل بتحصيل هذا المطلوب ابتداء من غير واسطة أحد، كما قال: {ونحن أقرب إليه من حبل الوريد]...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{والله} أي المحيط علمه وقدرته {أعلم} أي من كل أحد {بأعدائكم} أي كلهم هؤلاء وغيرهم، بما يعلم من البواطن، فمن حذركم منه كائناً من كان فاحذره. ولما كان كل من قبيلتي الأنصار قد والوا ناساً من اليهود ليعتزوا بهم وليستنصروهم، قال تعالى فاطماً لهم عن موالاتهم: {وكفى} أي والحال أنه كفى به هكذا كان الأصل، ولكنه أظهر الاسم الأعظم لتستحضر عظمته، فيستهان أمر الأعداء فقال: {بالله ولياً} أي قريباً بعمل جميع ما يفعله القريب الشفيق. ولما كان الولي قد تكون فيه قوة النصرة، والنصير قد لا يكون له شفقة الولي، وكانت النصرة أعظم ما يحتاج إلى الولي فيه؛ أفردها بالذكر إعلاماً باجتماع الوصفين مكرراً الفعل والاسم الأعظم اهتماماً بأمرها فقال: {وكفى بالله} أي الذي له العظمة كلها {نصيراً} أي لمن والاه فلا يضره عداوة أحد، فثقوا بولايته ونصرته دونهم، ولا تبالوا بأحد منهم ولا من غيرهم، فهو يكفيكم الجميع...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{والله أعلم بأعدائكم} أي والله أعلم منكم بأعدائكم ذواتهم كالمنافقين الذين تظنون أنهم منكم وما هم منكم وأحوالهم وأعمالهم التي يكيدون بها لكم في الخفاء وما يغشونكم به في الجهر بإبراز الخديعة في معرض النصيحة وإظهار الولاء لكم والرغبة في نصركم {وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا} لكم يتولى شؤونكم بإرشادكم إلى ما فيه خيركم وفوزكم وينصركم على أعدائكم بتوفيقكم للعمل بأسباب النصر من الاجتماع والتعاون والتناصر وإعداد جميع ما يستطاع من وسائل القوة فلا تغتروا بولاية غيره ولا تطلبوا النصر إلا منه باتباع سننه في نظام الاجتماع وهدايته في القرآن ومنها عدم الاعتماد على الأعداء وأهل الأثرة الذين لا يعملون إلا لمصلحة أنفسهم كاليهود. وكفى بالله وليا أبلغ من كفى الله وليا أو كفت ولاية الله لأن الكفاية تعلقت بذاته من حيث ولايته...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً} تذييل لتَطْمئنّ نفوس المؤمنين بنصر الله، لأنّ الإخبار عن اليهود بأنّهم يريدون ضلال المسلمين، وأنّهم أعداء للمسلمين، من شأنه أن يلقي الروع في قلوب المسلمين، إذ كان اليهود المحاورون للمسلمين ذوي عَدد وعُدد، وبيدهم الأموال، وهم مبثوثون في المدينة وما حولها: من قينقاع وقريظة والنضِير وخِيْبر، فعداوتهم، وسوء نواياهم، ليسا بالأمر الذي يستهان به؛ فكان قوله: {وكفى بالله ولياً} مناسباً لقوله: {ويريدون أن تضلوا السبيل}، أي إذا كانوا مضمرين لكم السوء فاللَّه وليّكم يهديكم ويتولّى أموركم شأن الوليّ مع مولاه، وكان قوله: {وكفى بالله نصيراً} مناسباً لقوله: {بأعدائكم}، أي فاللَّه ينصركم.
فقد يكون عندكم علم بالأعداء فيقال: أنتم عالمون بأعدائكم. لكن الله أعلم بالأعداء جميعا؛ لأنه قد تكون لك عداوة بينك وبين نفسك، أو عداوة من زوجتك، أو عداوة من أولادك أو كل هذه العداوات جميعها أو بعضها. وهؤلاء في ظاهر الأمر لا يمكن للإنسان أن يتبين عداوتهم جميعا، لكن الله أعلم بهم وبما يخفون؛ لذلك يقول: {والله أعلم بأعدائكم}...
وجاء بها بعد قوله: {ويريدون أن تضلوا السبيل} أي مخافة أن نقول: إن هؤلاء أهل كتاب أو مسلمون مثلنا وكذا وكذا. ومادام الله هو الأعلم بالأعداء. فهو لن يخدعنا ولن يغشنا، فيجب أن ننتبه إلى ما يقوله الحق من أنهم أعداؤنا، ويقول بعدها: {وكفى بالله وليا} وحين يقول هذا، فالقول يعني أنك لا تريد وليا بعد ذلك، كما يقولون: كفاني فلان؛ أي أنك قد تحتاج إلى هذا وهذا ثم تقول: لكن فلانا عرفته فكفاني عن كل ذلك، أي لا يحوجني إلى أحد سواه؛ لأنني أجد عنده الكفاية التي تكفيني في كل حركة حياتي...
{وكفى بالله وليا}.. نعم كفى به وليا لأن غيره من البشر إنما يملكون الأسباب، والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الأسباب، فيملك ما هو فوق الأسباب. ولذلك يقول مطمئنا لنا: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا 2 ويرزقه من حيث لا يحتسب} (سورة الطلاق)...
و "الولي "دائما هو من يليك مباشرة أي أنه قريب منك. {وكفى بالله نصيرا} إذن فهناك قريب، وهناك أيضا نصير، فقد يكون هناك من هو قريب منك ولا ينصرك، لكن الله ولي ونصير، فمادامت المسألة مسألة معركة {والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا}، كان الحق ينبهنا: إياكم أن تقولوا إننا نلتمس النصرة عند أحد، اصنعوا ما في استطاعتكم أن تصنعوه ثم اتركوا ما فوق الاستطاعة إلى الله. ولذلك فالحق سبحانه وتعالى أوضح لنا: إياكم ان تتخذوا من أعدائكم أولياء، وإياكم أن تقولوا؛ ماذا نفعل ونحن ضعفاء، ونريد أن نكون في حمى أحد، وماذا نفعل في أعدائنا؟ لا تقولوا ذلك؛ لأن الله أعلمنا: أنا أنصركم بالرعب بأن ألقي في قلوب أعدائكم الخوف فينهزموا من غير سبب وفيهم قوة وغلبة، فإن لم يكن عندكم أسلحة فسأنصركم بالرعب. ومادام سينصرنا بالرعب فهذه كافية؛ لأنه ساعة ينصرني بالرعب؛ يلقى عدوى سلاحه وأنا آخذه؛ ولذلك قال: اعملوا ما في استطاعتكم، ولم يقل: أعدوا لخصومكم ما تحققون به النصر، فهو سبحانه قادر على أن ينصرنا بالرعب: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله} (من الآية 151 سورة آل عمران). ومادام ألقى في قلوب الذين كفروا الرعب فوسائلهم كلها تكون للمؤمنين وتنتهي المسألة...