24- مثل الفريقين : المؤمنين والكافرين ، كالأعمى الذي يسير على غير هدى ، والأصم الذي لا يسمع ما يرشده إلى النجاة ، وكقوى البصر الذي يرى طريق الخير والنجاة ، وقوى السمع الذي يسمع كل ما ينفعه ، هذان الفريقان لا يستويان في الحال والمآل . أفلا تتفكرون - أيها الناس - فيما بينكم من التباين والكفر ، وفيما بين الباطل والحق من خلاف ، فتبتعدوا عن طريق الضلال ، وتسيروا في الطريق المستقيم ؟
{ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ } أي : فريق الأشقياء ، وفريق السعداء . { كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ } هؤلاء الأشقياء ، { وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ } مثل السعداء .
{ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا } لا يستوون مثلا ، بل بينهما من الفرق ما لا يأتي عليه الوصف ، { أَفَلَا تَذَكَّرُونَ } الأعمال ، التي تنفعكم ، فتفعلونها ، والأعمال التي تضركم ، فتتركونها .
ثم ضرب - سبحانه - مثلا لفريق الكافرين ولفريق المؤمنين فقال : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } .
وقوله : { مَثَلُ الفريقين . . . } أى : حالهم وصفتهم .
وأصل المثل بمعنى والمثل : النظير والشبيه ثم أطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه - وهو الذى يضرب فيه - لمورده - أى الذى ورد فيه أولا .
ولا يكون إلا فيام فيه غرابة . ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة .
وإنما تضرب الأمثال لإِيضاح المعنى الخفى ، وتقريب المعقول من المحسوس وعرض الغائب فى صورة الشاهد . فيكون المعنى الذى ضرب له المثل أوقع فى القلوب وأثبت فى النفوس .
والمعنى : حال الفريقين المذكورين قبل ذلك وهما الكافرون والمؤمنون كحال الضدين المختلفين كل الاختلاف .
أما الكافرون فحالهم وصفتهم كحال وصفة من جميع بين العمى والصمم . لأنهم مع كونهم يرون ويسمعون لكنهم لم ينتفعوا بذلك فصاروا كالفاقد لهما .
وأما المؤمنون فحالهم وصفتهم كحال وصفة من جميع بين النصر السليم والسمع الواعى لأنهم انتفعوا بما رأوا من دلائل تدل على وحدانية الله وقدرته وبما سمعوا من توجيهات تدل على صحة تعاليم الإِسلام .
والمقصود من هذا التمثيل . تنبيه الكافرين إلى ما هم عليه من ضلال وجهالة لعلهم بهذا التنبيه يتداركون أمرهم ، فيدخلون فى دين الإِسلام وتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من حق ، وبذلك يزدادون إيمانا على إيمانهم .
والاستفهام فى قوله { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } للإِنكار والنفى ، أى : هل يستوى فى الصفة والحال من كان ذا سمع وبصر بمن فقدهما ؟ كلا إنهما لا يستويان حتى عند أقل العقلاء عقلا .
وقوله : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } حض على التذكر والتدبر والتفكر .
أى : أتشكون فى عدم استواء الفريقين ؟ لا إن الشك فى عدم استوائهما لا يليق بعاقل وإنما اللائق به هو اعتقاد تباين صفتيهما والدخول فى صفوف المؤمنين الذين عملوا الأعمال الصالحات وأخبتوا إلى ربهم .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد بينت حال الكافرين وذكرت من أوصافهم أربعة عشر وصفا أولهما : افتراء الكذب . . . وآخرها : الخسران فى الآخرة . كما بينت حال المؤمنين وبشرتهم بالخلود فى الجنة : ثم ضربت مثلا لكل فريق وشبهت حاله بما يناسبه من صفات . .
وفى ذلك ما فيه من الهداية إلى الطريق المستقيم ، لمن كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد .
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله ووحدانيته وعن إعجاز القرآن الكريم وعن حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المكذبين ساقت السورة الكريمة بترتيب حكيم قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم وقد استغرق هذا القصص معظم الآيات الباقية فيها فقد حدثتنا عن قصة نوح مع قومه وعن قصة هود مع قومه ، وعن قصة صالح مع قومه ، وعن قصة لوط مع قومه ، وعن قصة شعيب مع قومه ، كما تحدثت عن قصة إبراهيم مع رسل الله الذين جاءوا بالبشرى ، وعن جانب من قصة موسى مع فرعون .
قال الإِمام الرازى : إعلم أنه - تعالى - لما ذكر فى تقرير المبدأ والمعاد دلائل ظاهرة ، وبينات قاهرة ، وبراهين باهرة ، أتبعها بذكر قصص الأنبياء وفيه فوائد :
أحدها : التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول هذه الدلائل والبينات ليس من خواص قوم النبى - صلى الله عليه وسلم - ، بل هذه العادة المذمومة كانت حاصلة فى جميع الأمم السالفة ، والمصيبة إذا عمت خفت . فكان ذكر قصصهم وحكاية إصرارهم وعنادهم يفيد تسلية النبى - صلى الله عليه وسلم - وتخفيف ذلك على قلبه .
وثانيها : أنه - تعالى - يحكى فى هذه القصص أن عاقبة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللعن فى الدنيا والخسارة فى الآخرة . وعاقبة أمر المحقين إلى الدولة فى الدنيا ، والسعادة فى الآخرة ، وذلك يقوى قلوب المحقين ، ويكسر قلوب المبطلين .
وثالثها : التنبيه على أنه - تعالى - وإن كان يمهل هؤلاء المبطلين ، ولكنه لا يهملهم ، بل ينتقم منهم على أكمل الوجوه .
ورابعها : بيان أن هذه القصص دالة على نبوة النبى - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان أميا ، وما طالع كتابا ولا تتلمذ على أسناذ ، فإذا ذكر هذه القصص على هذا الوجه من غير تحريف ولا خطأ ، دل ذلك على أنه إنما عرفه بالوحى من الله - تعالى - .
ثم ضرب [ الله ]{[14555]} تعالى مثل الكافرين والمؤمنين ، فقال : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ } أي : الذين وصفهم أولا بالشقاء والمؤمنين السُّعَداء ، فأولئك كالأعمى والأصم ، وهؤلاء كالبصير والسميع . فالكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا ، وفي الآخرة لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه ، أصم عن سماع الحجَج ، فلا{[14556]} يسمع ما ينتفع به ، { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] ، وأما المؤمن ففَطِن ذكي لبيب ، بصير بالحق ، يميز{[14557]} بينه وبين الباطل ، فيتبعُ الخير ويترك الشر ، سميع للحجة ، يفرق بينها وبين الشبهة ، فلا يَرُوج{[14558]} عليه باطل ، فهل يستوي هذا وهذا .
{ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } أفلا تعتبرون وتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء ، كما قال في الآية الأخرى : { لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [ الحشر : 20 ] وقال { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 19 - 24 ] .
بعد أن تبين الاختلاف بين حال المشركين المفترين على الله كذباً وبين حال الذين آمنوا وعملوا الصالحات في منازل الآخرة أعقب ببيان التنظير بين حالي الفريقين المشركين والمؤمنين بطريقة تمثيل ما تستحقه من ذم ومدح .
فالجملة فذلكة للكلام وتحصيل له وللتحذير من مواقعة سببه .
والمَثل ، بالتحريك : الحالة والصفة كما في قوله تعالى : { مثَل الجنة التي وعد المتقون } الآية من سورة [ الرعد : 35 ] ، أي حالة الفريقين المشركين والمؤمنين تشبه حال الأعمى الأصم من جهة وحال البصير السميع من الجهة الأخرى ، فالكلام تشبيه وليس استعارة لوجود كاف التشبيه وهو أيضاً تشبيه مفرد لا مركب .
والفريقان هما المعهودان في الذكر في هذا الكلام ، وهما فريق المشركين وفريق المؤمنين ، إذ قد سبَق ما يؤذن بهذين الفريقين من قوله : { ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً } [ هود : 18 ] . ثم قوله : { إنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم } [ هود : 23 ] الآية .
والفريق : الجماعة التي تفارق ، أي يخالف حالها حال جماعة أخرى في عمل أو نحلة . وتقدم عند قوله تعالى : { فأيّ الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون } في سورة [ الأنعام : 81 ] .
شبه حال فريق الكفار في عدم الانتفاع بالنظر في دلائل وحدانية الله الواضحة من مخلوقاته بحال الأعمى ، وشبهوا في عدم الانتفاع بأدلة القرآن بحال من هو أصم .
وشبه حال فريق المؤمنين في ضد ذلك بحال من كان سليم البصر ، سليم السمع فهو في هدى ويقين من مدركاته .
وترتيب الحالين المشبه بهما في الذكر على ترتيب ذكر الفريقين فيما تقدم ينبىء بالمراد من كل فريق على طريقة النشر المرتب . والترتيب في اللف والنشر هو الأصل والغالب .
وقد علم أن المشبهين بالأعمى والأصم هم الفريق المقول فيهم { ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } [ هود : 20 ] .
والواو في قوله : { والأصَم } للعطف على { الأعمى } عطف أحد المشبهين على الآخر . وكذلك الواو في قوله : { والسميع } للعطف على { البصير } .
وأما الواو في قوله : { والبصير } فهي لعطف التشبيه الثاني على الأول ، وهو النشر بعد اللف . فهي لعطف أحد الفريقين على الآخر ، والعطف بها للتقسيم والقرينة واضحة .
وقد يظن الناظر أن المناسب ترك عطف صفة { الأصم } على صفة { الأعمى } كما لم يعطف نظيراهما في قوله تعالى : { صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ } في سورة [ البقرة : 18 ] ظناً بأن مورد الآيتين سواء في أن المراد تشبيه من جمعوا بين الصفتين . وذلك أحد وجهين ذكرهما صاحب الكشاف . وقد أجاب أصحاب حواشي الكشاف بأن العطف مبني على تنزيل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات . ولم يذكروا لهذا التنزيل نكتة ولعلهم أرادوا أنه مجرد استمال في الكلام كقول ابن زيابة :
يا لهف زيابة للحارب ال *** صابح فالغانم فالآيب
والوجه عندي في الداعي إلى عطف صفة الأصم } على صفة { الأعمى } أنه ملحوظ فيه أن لفريق الكفار حالين كل حال منهما جدير بتشبيهه بصفة من تينك الصفتين على حدة ، فهم يُشبهون الأعمى في عدم الاهتداء إلى الدلائل التي طريق إدراكها البصر ، ويُشْبهون الأصم في عدم فهم المواعظ النافعة التي طريق فهمها السمع ، فهم في حالتيْن كلُّ حال منهما مشبّه به ، ففي قوله تعالى : { كالأعمى والأصم } تشبيهان مُفرقان كقول امرىء القيس :
كأنّ قلوب الطير رطباً ويابساً *** لدى وكرها العُنّاب والحشف البالي
والذي في الآية تشبيه معقولين بمحسوسين ، واعتبار كل حال من حالي فريق الكفار لا محيد عنه لأن حصول أحد الحالين كاف في جر الضلال إليهم بله اجتماعِهما ، إذ المشبّه بهما أمر عدمي فهو في قوة المنفي .
وأما الدّاعي إلى العطف في صفتي { البصير والسّميع } بالنسبة لحال فريق المؤمنين فبخلاف ما قررنا في حال فريق الكافرين لأن حال المؤمنين تشبه حالة مجموع صفتي { البصير السميع } ، إذ الإهتداء يحصل بمجموع الصفتين فلو ثبتت إحدى الصفتين وانتفت الأخرى لم يحصل الاهتداء إذ الأمران المشبه بهما أمران وجوديان ، فهما في قوة الإثبات ؛ فتعين أن الكون الداعي إلى عطف { السميع } على { البصير } في تشبيه حال فريق المؤمنين هو المزاوجة في العبارة لتكون العبارة عن حال المؤمنين مماثلة للعبارة عن حال الكافرين في سياق الكلام ، والمزاوجةُ من محسنات الكلام ومرجعها إلى فصاحته .
وجملة { هل يستويان مثلاً } واقعة موقع البيان للغرض من التشبيه وهو نفي استواء حالهما ، ونفي الاستواء كناية عن التفضيل والمفضل منهما معلوم من المقام ، أي معلوم تفضيل الفريق الممثل بالسميع والبصير على الفريق الممثل بالأعمى والأصم . والاستفهام إنكاري .
وانتصب { مثلاً } على التمييز ، أي من جهة حالهما ، والمثل : الحال .
والمقصود تنبيه المشركين لما هم فيه من الضلالة لعلهم يتداركون أمرهم فلذلك فرع عليه بالفاء جملةُ { أفلا تذكرون } .
والهمزة استفهام وإنكار انتفاء تذكرهم واستمرارهم في ضلالهم .
وقرأ الجمهور « تذّكرون » بتشديد الدال . وأصله تتذكرون ، فقلبت التاء دَالاً لِقرب مخرجيهما وليتأتّى الإدْغام تخفيفاً . وقرأه حفص ، وحمزة ، والكسائي بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين من أول الفعل .
وفي مقابلة { الأعمى والأصم } ب { البصير والسميع } محسن الطباق .