اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{۞مَثَلُ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ كَٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡأَصَمِّ وَٱلۡبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِۚ هَلۡ يَسۡتَوِيَانِ مَثَلًاۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} (24)

لمَّا ذكر الفريقين ذكر لهما مثالاً مطابقاً .

{ مَثَلُ الفريقين } مبتدأ ، و{ كالأعمى } خبره ، ثُمَّ هذه الكاف يحتمل أن تكون هي نفس الخبر ، فتقدَّر ب " مثل " ، تقديره : مثلُ الفريقين مثل الأعمى .

ويجوزُ أن تكون " مَثَلُ " بمعنى " صفة " ، ومعنى الكافِ معنى " مِثْل " ، فيقدَّر مضافٌ محذوفٌ ، أي : كمثل الأعمى .

وقوله : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى } يجوزُ أن يكون من باب تشبيه شيئين بشيئين ، فقابل العمى بالبصَرِ ، والصَّمَم بالسَّمْع ، وهو من الطِّباق ، وأن يكون من تشبيه شيءٍ واحد بوصفيه بشيءٍ واحدٍ بوصفيه ، وحينئذٍ يكون قوله : { كالأعمى والأصم } وقوله : { والبصير والسميع } من بابِ عطف الصفات ؛ كقوله : [ المتقارب ]

إلى المَلكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ *** وليْثِ الكتيبَةِ في المُزْدَحَمْ{[18743]}

وقد أحسن الزمخشريُّ في التَّعبير عن ذلك فقال : شبَّه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصيرِ والسَّميعِ ، وهو من اللفِّ والطِّباق ، وفيه معنيان : أن يُشَبِّه الفريقين تشبيهين اثنين ، كما شبَّه امرؤُ القيس قلوبَ الطَّير بالحشفِ والعُنَّاب ، وأن يُشَبِّه بالذي جمع بين العمى والصَّمم ، والذي جمع بين البصرِ والسَّمعِ ، على أن تكون الواو في " والأصَمِّ " وفي " والسَّمِيع " لعطف الصِّفةِ على الصفة كقوله : [ السريع ]

. . . الصْ *** صَابحِ فالغَانِمِ فالآيِبِ{[18744]}

يريد بقوله : " اللَّف " أنه لفَّ المؤمنين ، والكافرين اللَّذين هما مشبَّهان بقوله : " الفريقين " ولو فسَّرهما لقال : مثلُ الفريق المؤمن كالبصيرِ والسَّميع ، ومثلُ الكافر كالأعمى والأصم ، وهي عبارةٌ مشهورةٌ في علم البيان : لفظتان متقابلتان ، اللَّفُّ والنشرُ ، أشار لقول امرئ القيس : [ الطويل ]

كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْر رَطْباً ويَابِساً *** لَدَى وكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي{[18745]}

أصلُ الكلامِ : كأنَّ الرَّطْبَ من قلوب الطَّيرِ : العُنَّابُ ، واليابس منها : الحَشَفُ ، فلفَّ ونشر ، وللّف والنشر في علم البيان تقسيمٌ كثير ، ليس هذا موضعه .

وأشار بقوله : " الصَّابح فالغانم " إلى قوله : [ السريع ]

يَا وَيْحَ زيَّابةَ لِلْحَارثِ الصْ *** صَابِحِ فالغَانمِ فالآيِبِ{[18746]}

وقد تقدَّم ذلك في أول البقرة .

فإن قيل : لِمَ قدّضم تشبيه الكافر على المؤمن ؟

فالجوابُ : لأنَّ المتقدِّمَ ذكر الكفَّار ، فلذلك قدَّم تمثيلهم .

فإن قيل : ما الحكمةُ في العدول عن هذا التركيب لو قيل : كالأعمى والبصير ، والأصم والسَّميع ، لتتقابل كلُّ لفظةٍ مع ضدها ، ويظهر بذلك التَّضادُّ ؟ .

فالجوابُ : بأنَّه تعالى لمَّا ذكر انسدادَ العين أتبعهُ بانسدادِ الأذن ، ولمَّا ذكر انفتاح العين أتبعهُ بانفتاح الأذن ، وهذا التَّشبيهُ أحدُ الأقسام ، وهو تشبيهُ أمْرٍ معقول بأمر محسوس ، وذلك أنَّهُ شبَّه عمى البصيرة وصممها بعمى البصرِ وصمم السَّمع ، ذاك متردِّدٌ في ظُلمِ الضَّلالات ، كما أنَّ هذا مُتحير في الطُّرقاتِ .

قوله : مَثَلاً " تمييز ، وهو منقولٌ من الفاعليَّة ، والأصلُ : هل يستوي مثلهما ، كقوله تعالى { واشتعل الرأس شَيْباً } [ مريم : 4 ] وجوَّز ابنُ عطية أن يكون حالاً ، وفيه بعدٌ صناعةً ومعنى ؛ لأنَّه على معنى " مِنْ " لا على معنى " في " .

ثم قال : { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } مُنَبِّهاً على أنَّهُ يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصَّمَم ، وإذا كان العلاجُ مُمْكناً ، وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان .


[18743]:تقدم.
[18744]:تقدم.
[18745]:ينظر ديوانه ص 38 وشرح التصريح 1/382 وشرح شواهد المغني 1/342، 2/595، 819 واللسان (أدب) والمنصف 2/117 وأوضح المسالك 2/329 ومغني اللبيب 1/218، 2/392، 439 ودلائل الإعجاز (66) وروح المعاني 13/34. الدر المصون 4/90.
[18746]:تقدم.