114- قل لهم - أيها النبي - هذا حكم الله بالحق بينتهُ الآيات الساطعة ، فلا يسوغ أن أطلب حَكَماً غيره يفصل بيني وبينكم ، وقد حكم سبحانه فأنزل الكتاب الكريم حُجة لي عليكم ، وقد عجزتم أن تأتوا بمثله ، وهو مبين للحق وللعدل ، وإن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أنه منزل من عند الله مشتملا على الحق ، كما بشرت كتبهم . وإن حاولوا إخفاء ذلك وكتمانه ، فلا تكونن - يا أيها النبي - أنت ومن اتبعك من الذين يشكّون في الحق بعد بيانه .
{ 114 ، 115 } { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ * وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }
أي : قل يا أيها الرسول { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } أحاكم إليه ، وأتقيد بأوامره ونواهيه . فإن غير الله محكوم عليه لا حاكم . وكل تدبير وحكم للمخلوق فإنه مشتمل على النقص ، والعيب ، والجور ، وإنما الذي يجب أن يتخذ حاكما ، فهو الله وحده لا شريك له ، الذي له الخلق والأمر .
{ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا } أي : موضَّحا فيه الحلال والحرام ، والأحكام الشرعية ، وأصول الدين وفروعه ، الذي لا بيان فوق بيانه ، ولا برهان أجلى من برهانه ، ولا أحسن منه حكما ولا أقوم قيلا ، لأن أحكامه مشتملة على الحكمة والرحمة .
وأهل الكتب السابقة ، من اليهود والنصارى ، يعترفون بذلك { ويَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } ولهذا ، تواطأت الإخبارات { فَلَا } تشُكَّنَّ في ذلك ولا { تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
ثم أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصارح المشركين بأن الله وحده هو الحكم الحق ، وإن كتابه هو الآية الكبرى الدالة على صدقه فيما يبلغه عنه فقال - تعالى- : { أَفَغَيْرَ الله . . . . } .
روى أن مشركى مكة قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم واجعل بيننا حكما من أحبار اليهود أو من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما فى كتابهم من أمرك فنزل قوله - تعالى - { أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً } الآية .
وقوله : { أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً } كلام مستأنف على إرادة القول ، والهمزة للإنكار ، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام .
والحكم - بفتحتين - وهو من يتحاكم إليه الناس ويرضون بحكمه ، وقالوا : إنه أبلغ من الحاكم " وأدل على الرسوخ ، كما أنه لا يطلق إلا على العادل وعلى من تكرر منه الحكم بخلاف الحاكم .
والمعنى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين ، أأميل إلى زخارف الشياطين ، فأطلب معبودا سوى الله - تعالى - ليحكم بينى وبينكم ، ويفصل المحق منها من المبطل .
وأسند صلى الله عليه وسلم الابتغاء لنفسه لا إلى المشركين ، لإظهار كمال النصفة أو لمراعاة قولهم : إجعل بيننا وبينك حكما .
و ( غير ) مفعول ل { أَبْتَغِي } و { حَكَماً } إما أن يكون حالا لغير أو تمييزا له . وجملة { وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً } حالية مؤكدة للإنكار أى : أفغير الله أطلب من يحكم بينى وبينكم ، والحال أنه - سبحانه - هو الذى أنزل إليكم الكتاب مفصلا ، أى مبينا فيه الحق والباطل ، والحلال والحرام ، والخير والشر ، وغير ذلك من الأحكام التى أنتم فى حاجة إليها فى دينكم ودنياكم ، وأسند الإنزال إليهم لاستمالتهم نحو المنزل واستدعائهم إلى قبول حكمه ، لأن من نزل الشىء من أجله ، من الواجب عليه أن يتقبل حكمه .
ثم ساق - سبحانه - دليلا آخر على أن القرآن حق فقال : { والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بالحق } .
أى : والذين آتيناهم الكتاب أى التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى يعلمون علم اليقين أن هذا القرآن منزل عليك من ربك بالحق . لأنهم يجدون فى كتبهم البشارات التى تبشر بك ، ولأن هذ القرآن الذى أنزله الله عليك مصدق لكتبهم ومهيمن عليها .
فهذه الجملة الكريمة تقرير لكون القرآن منزلا من عند الله ، لأن الذين وثق بهم المشركون من علما أهل الكتاب عالمون بحقيقته وأنه منزل من عند الله .
وقوله : { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } أى : فلا تكونن من الشاكين فى أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من عند ربك بالحق ، لأن عدم اعتراف بعضهم بذلك مرده إلى الحسد والجحود ، وهذا النهى إنما هو زيادة فى التوكيد ، وتثبيت لليقين ، كى لا يجول فى خاطره طائف من التردد فى هذا اليقين .
قال ابن كثير : وهذا كقوله - تعالى - { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين }
قال : وهذا شرط ، والشرط لا يتقضى وقوعه ، ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا أشك ولا أسأل " .
وقيل : الخطاب لكل من يتأتى له الخطاب على معنى أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه فلا ينبغى أن يشك فى ذلك أحد .
وقيل : الخطاب للنبى صلى الله عليه وسلم والمقصود أمته ، لأنه صلى الله عليه وسلم حاشاه من الشك .
يقول [ الله ]{[11098]} تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين بالله الذين يعبدون غيره : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } أي : بيني وبينكم ، { وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا } أي : مبينا ، { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } أي : من اليهود والنصارى ، { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } ، أي : بما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين ، { فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } كقوله { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ يونس : 94 ] ، وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي وقوعه ؛ ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا أشك ولا أسأل " .
وقوله تعالى : { أفغير } نصب ب { أبتغي } ، و { حكماً } نصب على البيان والتمييز{[5067]} ، و { مفصلاً } معناه مزال الإشكال قد فصلت آياته ، وإن كان معناها يعم في أن الله لا يبتغى سواه حَكماً في كل شيء وفي كل قضية فإنَّا نحتاج في وصف الكلام واتساق المعاني أن ننظرفيما تقدم إلى قضية تكون سببا إلى قوله تعالى :{ أفغير الله أبتغي حكما } ؟ فهي— والله أعلم— حكمه عليهم بأنهم لا يؤمنون ولو بعث إليهم كل الآيات ، وحكمه بأن جعل الأنبياء أعداء من الجن والإنس ، و { حَكَماً } أبلغ من حاكم إذ هي صيغة للعدل من الحكام والحاكم جار على الفعل فقد يقال للجائر ، و { حَكَماً } نصب على البيان أو الحال ، وبهذه الآية خاصمت الخوارج علياً رضي الله عنه في تكفيره بالتحكيم ، ولا حجة لها لأن الله تعالى حكم في الصيد وبين الزوجين فتحكيم المؤمنين من حكمه تعالى .
وقوله تعالى : { والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } .
يتضمن الإشهاد بمؤمنيهم والطعن والتنبيه على مشركيهم وحسدتهم ، وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم «منزّل » بالتشديد ، والباقون بالتخفيف ، «والكتاب » أولاً هو القرآن ، وثانياً اسم جنس التوارة والإنجيل والزبور والصحف ، ووصفه أهل الكتاب بالعلم عموم بمعنى الخصوص وإنما يريد علماؤهم وأحبارهم ، وقوله { فلا تكونن من الممترين } تثبيت ومبالغة وطعن على الممترين{[5068]} .
استئناف بخطاب من الله تعالى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بتقدير الأمر بالقول بقرينة السّياق كما في قوله تعالى : { لا نفرّق بين أحد من رسله } [ البقرة : 285 ] أي يقولون . وقوله المتقدّم آنفاً { قد جاءكم بصائر من ربكم } [ الأنعام : 104 ] بعد أن أخبره عن تصاريف عناد المشركين ، وتكذيبهم . وتعنّتهم في طلب الآيات الخوارق ، إذ جعلوها حكَماً بينهم وبين الرّسول عليه الصلاة والسلام في صدق دعوته ، وبعد أن فضحهم الله بعداوتهم لرسوله عليه الصلاة والسلام ، وافترائهم عليه ، وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وتركِهم وما يفترون ، وأعلمَه بأنَّه ما كلَّفه أن يكون وكيلاً لإيمانهم ، وبأنَّهم سيَرجعون إلى ربّهم فينبّئهم بما كانوا يعملون ، بعد ذلك كلّه لَقَّن الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يخاطبهم خطاباً كالجواب عن أقوالهم وتورّكاتهم ، فيفرّع عليها أنّه لا يطلب حاكماً بينه وبينهم غير الله تعالى ، الّذي إليه مرجعهم ، وأنهم إن طمعوا في غير ذلك منه فقد طمعوا منكراً ، فتقدير القول متعيّن لأنّ الكلام لا يناسب إلاّ أن يكون من قول النبي عليه الصلاة والسلام .
والفاء لتفريع الجواب عن مجموع أقوالهم ومقتَرحاتهم ، فهو من عطف التّلقين بالفاء : كما جاء بالواو في قوله تعالى : { قال إنّي جاعلك للنّاس إماماً قال ومن ذريّتي } [ البقرة : 124 ] ، ومنه بالفاء قوله في سورة الزمر ( 64 ) : { قل أفغيرَ اللَّه تأمرونيَ أعْبُد أيّها الجاهلون } فكأنّ المشركين دعوا النّبي إلى التّحاكم في شأن نبوءته بحكم ما اقترحوا عليه من الآيات ، فأجابهم بأنّه لا يضع دِين الله للتّحاكم ، ولذلك وقع الإنكار أن يحكِّم غير الله تعالى ، مع أنّ حكم الله ظاهر بإنزال الكتاب مفصّلا بالحقّ ، وبشهادة أهل الكتاب في نفوسهم ، ومن موجبات التّقديم كون المقدّم يتضمّن جواباً لردّ طلب طلبَه المخاطب ، كما أشار إليه صاحب في قوله تعالى : { قل أغير الله أبغي رباً } في هذه السورة [ الأنعام : 164 ] . والهمزة للاستفهام الإنكاري : أي إن ظننتم ذلك فقد ظننتم مُنكراً .
وتقديم { أفغير الله } على { أبتغي } لأنّ المفعول هو محلّ الإنكار . فهو الحقيق بموالاة همزة الاستفهام الإنكاري ، كما تقدّم في قوله تعالى : { قل أغير الله أتَّخذ وليّا } في هذه السورة ( 14 ) .
والحَكَم : الحاكم المتخصّص بالحكم الَّذي لا ينقض حكمه ، فهو أخصّ من الحاكم ، ولذلك كان من أسمائه تعالى : الحَكَم ، ولم يكن منها : الحاكم . وانتصب حكما } على الحال .
والمعنى : لا أطلب حكَماً بيني وبينكم غير الله الّذي حكم حُكمَه عليكم بأنَّكم أعداء مقترفون .
وتقدّم الكلام على الابتغاء عند قوله تعالى : { أفغيرَ دين الله يبغون } في سورة آل عمران ( 83 ) .
وقوله : { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً } من تمام القول المأمور به . والواو للحال أي لا أعدل عن التّحاكم إليه . وقد فصّل حكمه بإنزال القرآن إليكم لتتدبّروه فتعلَموا منه صدقي ، وأنّ القرآن من عند الله .
وقد صيغت جملة الحال على الاسميّة المعرَّفةِ الجزأيْن لتفيد القصر مع إفادة أصل الخبر . فالمعنى : والحال أنّه أنزل إليكم الكتاب ولم ينزله غيره ، ونكتة ذلك أنّ في القرآن دلالة على أنّه من عند الله بما فيه من الإعجاز ، وبأُمِّيَّةِ المنزّل عليه . وأنّ فيه دلالة على صدق الرّسول عليه الصلاة والسلام تبعاً لثبوت كونه منزّلا من عند الله ، فإنَّه قد أخبر أنَّه أرسل محمّدا صلى الله عليه وسلم للنّاس كافَّة ، وفي تضاعيف حجج القرآن وأخباره دلالة على صدق من جاء به ؛ فحصل بصوغ جملة الحال على صيغة القصر الدّلالة على الأمرين : أنَّه من عند الله ، والحكممِ للرسول عليه الصّلاة والسّلام بالصّدق .
والمراد بالكتاب القرآن ، والتعريف للعهد الحضوري ، والضمير في { إليكم } خطاب للمشركين ، فإنّ القرآن أُنزل إلى النّاس كلّهم للاهتداء به ، فكما قال الله : { بما أنزل إليك أنزله بعلمه } [ النساء : 166 ] قال : { يأيُّها النّاس قد جاءكم بُرْهان من ربّكم وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } [ النساء : 174 ] وفي قوله : { إليكم } هنا تسجيل عليهم بأنَّه قد بلّغهم فلا يستطيعون تجاهلاً .
والمفصّل المبيَّن . وقد تقدّم ذكر التّفصيل عند قوله تعالى : { وكذلك نفصّل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين } في هذه السورة ( 55 ) .
وجملة { والذين أتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل } معطوفة على القول المحذوف ، فتكون استئنافاً مثله ، أو معطوفة على جملة { أفغير الله أبتغى } أو على جملة { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب } ، فهو عطف تلقين عُطف به الكلام المنسوب إلى الله على الكلام المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعضيدا لما اشتمل عليه الكلام المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من كون القرآن حقّاً ، وأنّه من عند الله .
والمراد بالَّذين آتاهم الله الكتابَ : أحبار اليهود ، لأنّ الكتاب هو التّوراة المعروف عند عامّة العرب ، وخاصّة أهلُ مكَّة ، لتردّد اليهود عليها في التّجارة . ولتردّد أهل مكّة على منازل اليهود بيَثرب وقُراها ولكون المقصود بهذا الحكم أحبارَ اليهود خاصّة قال : { آتيناهم الكتاب } ولم يقل : أهلُ الكتاب .
ومعنى علم الّذين أوتوا الكتاب بأنّ القرآن منزّل من الله : أنَّهم يجدونه مصدّقاً لما في كتابهم ، وهم يعلمون أنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم لم يَدرس كتابهم على أحد منهم ، إذ لو درسه لشاع أمْرُه بينهم ، ولأعلنوا ذلك بين النّاس حين ظهور دعوته . وهم أحرص على ذلك ، ولم يَدّعوه . وعلمُهم بذلك لا يقتضي إسلامهم لأنّ العناد والحسد يصدّانهم عن ذلك . وقيل : المراد بالَّذين آتاهم الله الكتاب : مَن أسلموا من أحبار اليهود . مثل عبدا لله بن سلاَم . ومُخَيْرِيق ، فيكون الموصول في قوله : { والذين آتيناهم الكتاب } للعهد . وعن عطاء : { والذين آتيناهم الكتاب } . هم رؤساء أصحاب محمّد صلى الله عليه وسلم أبو بكر ، وعُمر ، وعثمانُ ، وعليّ . فيكون الكتابُ هو القرآن .
وضمير { أنَّه } عائد إلى الكتاب الّذي في قوله : { وهو الذي أنزل إليكم الكتاب } وهو القرآن .
والباء في قوله { بالحق } للملابسة ، أي ملابساً للحقّ . وهي ملابسة الدّالّ للمدلول ، لأنّ معانيه ، وأخباره ، ووعده ، ووعيده ، وكلّ ما اشتمل عليه ، حقّ .
وقرأ الجمهور { مُنْزَل } بتخفيف الزاي وقرأ ابن عامر وحفص بالتّشديد والمعنى متقارب أو متّحد ، كما تقدّم في قوله تعالى : { نزّل عليك الكتاب بالحقّ } في أوّل سورة آل عمران ( 3 ) .
والخطاب في قوله : { فلا تكوننّ من الممترين } [ البقرة : 147 ] يحتمل أن يكون خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم فيكون التّفريع على قوله : { يعلمون أنه منزل من ربك بالحق } أي فلا تكن من الممترين في أنَّهم يعلمون ذلك ، والمقصود تأكيد الخبر كقول القائل بعد الخبر : هذا مَا لا شكّ فيه ، فالامتراء المنفي هو الامتراء في أنّ أهل الكتاب يعلمون ذلك ، لأنّ غريباً اجتماعُ علمهم وكفرهم به ، ويجوز أن يكون خطابا لغير معيّن ، ليعمّ كلّ من يحتاج إلى مثل هذا الخطاب ، أي فلا تكوننّ أيُّها السّامع من الممترين ، أي الشّاكين في كون القرآن من عند الله ، فيكون التّفريع على قوله : { منزل من ربك بالحق } أي فهذا أمر قد اتّضح . فلا تكن من الممترين فيه . ويحتمل أن يكون المخاطب الرّسول عليه الصلاة والسلام ، والمقصود من الكلام المشركون الممترون ، على طريقة التّعريض ، كما يقال : ( إياكَ أعني واسمعي يا جارهْ ) . ومنه قوله تعالى : { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك } [ الزمر : 65 ] . وهذا الوجه هو أحسن الوجوه ، والتفريع فيه كما في الوجه الثّاني .
وعلى كلّ الوجوه كان حذف متعلّق الامتراء لظهوره من المقام تعويلاً على القرينة ، وإذ قد كانت هذه الوجوه الثّلاثة غير متعارضة ، صحّ أن يكون جميعها مقصوداً من الآية . لتذهب أفهام السامعين إلى ما تتوصّل إليه منها . وهذا فيما أرى من مقاصد إيجاز القرآن وهو معنى الكلام الجامع ، ويجيء مثله في آيات كثيرة ، وهو من خصائص القرآن .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء العادلين بالله الأوثان والأصنام، القائلين لك كفّ عن آلهتنا ونكفّ عن إلهك: إن الله قد حكم عليّ بذكر آلهتكم بما يكون صدّا عن عبادتها، "أفَغَيْرَ اللّهِ أبْتَغي حَكَما "أي قل: فليس لي أن أتعدى حكمه وأتجاوزه، لأنه لا حكم أعدل منه ولا قائل أصدق منه. "وهُوَ أَنْزَلَ إلَيْكُمُ الكِتَابَ مُفَصّلاً" يعني: القرآن "مفصلاً"، يعني مبينا فيه الحكم فيما تختصمون فيه من أمري وأمركم...
"والّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَعْلَمُونَ أنّهُ مُنَزّلٌ مِنْ رَبكَ بالحَقّ فَلا تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ" يقول تعالى ذكره: إن أنكر هؤلاء العادلون بالله الأوثان من قومك توحيدَ الله، وأشركوا معه الأنداد، وجحدوا ما أنزلته إليك، وأنكروا أن يكون حقّا، وكذّبوا به. فالذين "آتيناهم الكتاب" وهو التوراة والإنجيل من بني إسرائيل، "يَعْلَمُونَ أَنّهُ مُنَزّلٌ مِنْ رَبّكَ" يعني: القرآن، وما فيه "بالحَقّ" يقول: فصلاً بين أهل الحقّ والباطل، يدلّ على صدق الصادق في علم الله، وكذب الكاذب المفتري عليه.
"فَلا تَكُونَنّ مِنَ المُمْتَرِينَ" يقول: فلا تكوننّ يا محمد من الشاكّين في حقية الأنباء التي جاءتك من الله في هذا الكتاب وغير ذلك مما تضمنه، لأن الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحقّ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله: (مُفَصَّلًا) قيل: مُفَصَّلًا بالحجج والبراهين ما يعرف كل عاقل لم يكابر عقله أنه من عند اللَّه نزل.
وقيل: مُفَصَّلًا بالأمر، والنهي، والتحليل، والتحريم، فيقول: كيف أبتغي حكما غير ما أنزل اللَّه، وقد أنزل كتابًا مُفَصَّلًا مبينًا، فيه ما يحل وما يحرم، وما يؤتى وما يتقى، فلا حاجة تقع إلى غير اللَّه...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
... قل لهم يا محمد أفغير اللّه {أَبْتَغِي حَكَماً}: قاضياً بيني وبينكم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" أنزل اليكم الكتاب مفصلا "وإنما مدح الكتاب بأنه مفصل، لأن التفصيل: تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى، وينفى أيضا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المراد. وإنما فصل القرآن بالآيات التي تفصل المعاني بعضها من بعض وتخليص الدلائل في كل فن...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قلْ لهم أترون أني -بعد ظهور البيان ووضوح البرهان- أَذَرُ اليقين وأوثر التخمين، وأفارق الحقَّ وأقارن الحظ؟ إن هذا محال من الظن...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِى حَكَماً}... أي قل يا محمد: أفغير الله أطلب حاكماً يحكم بيني وبينكم، ويفصل المحق منا من المبطل {وهُوَ الذى أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب} المعجز {مُفَصَّلاً} مبيناً فيه الفصل بين الحق والباطل، والشهادة لي بالصدق وعليكم بالافتراء. ثم عضد الدلالة على أنّ القرآن حق بعلم أهل الكتاب أنه حق لتصديقه ما عندهم وموافقته له {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} من باب التهييج والإلهاب، كقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] أو {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} في أنّ أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق، ولا يريبك جحود أكثرهم وكفرهم به. ويجوز أن يكون {فَلاَ تَكُونَنَّ} خطاباً لكل أحد، على معنى أنه إذا تعاضدت الأدلة على صحته وصدقه، فما ينبغي أن يمتري فيه أحد. وقيل: الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته.
المسألة الأولى: اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها، أجاب عنه بأنه لا فائدة في إظهار تلك الآيات، لأنه تعالى لو أظهرها لبقوا مصرين على كفرهم. ثم إنه تعالى بين في هذه الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل، فكان ما يطلبونه طلبا للزيادة، وذلك مما لا يجب الالتفات إليه، وإنما قلنا: إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين:
الوجه الأول: أن الله قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل إليه الكتاب المفصل المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة، وقد عجز الخلق عن معارضته. فظهور مثل هذا المعجز عليه يدل على أنه تعالى قد حكم بنبوته، فقوله: {أفغير الله أبتغى حكما} يعني قل يا محمد: إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات، فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكما؟ فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز. ثم قل: إنه تعالى حكم بصحة نبوتي حيث خصني بمثل هذا الكتاب المفصل الكامل البالغ إلى حد الإعجاز.
والوجه الثاني: من الأمور الدالة على نبوته؛ اشتمال التوراة والإنجيل على الآيات الدالة على أن محمدا عليه الصلاة والسلام رسول حق، وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله تعالى، وهو المراد من قوله: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق} وبالجملة فالوجهان مذكوران في قوله تعالى: {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
بيّن الله تعالى في السياق الذي قبل هذا أن الذين اقترحوا على رسوله الآيات الكونية وأقسموا بأنهم يؤمنون بها إذا جاءتهم كاذبون في دعواهم وإيمانهم كما ثبت فيما مضت به سنة الله في أمثالهم من أعداء الرسل المعاندين وهم شياطين الإنس والجن الذين يغرون الجاهلين بزخرف أقوالهم فيصرفونهم بها عن الحق ويزينون لهم الباطل فتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة ويرضونه لموافقته لأهوائهم فيحملهم على اقتراف السيئات وارتكاب المنكرات. ثم قفى عليه بهاتين الآيتين المبينتين لآية الله الكبرى التي هي أقوى دلالة على رسالة نبيه من جميع ما اقترحوا ومما لم يقترحوا من الآيات الكونية، وهي القرآن الحكيم، وكون منزلها هو الذي يجب الرجوع إليه في الحكم في أمر الرسالة وغيره واتباع حكمه فيها دون شياطين الإنس والجن المبطلين المضلين.
فقال آمرا لرسوله أن يقول لهم: {أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا} الحَكَم (بفتحتين كالجبل} هو من يتحاكم الناس إليه باختيارهم ويرضون بحكمه وينفذونه؛ أأطلب حكَما غير الله تعالى يحكم بيني وبينكم في هذا الأمر وغيره {وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً} أي والحال أنه هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا فيه كل ما يصح به الحكم؛ فإنزاله مشتملا على الحكم التفصيلي للعقائد والشرائع وغيرها على لسان رجل منكم أمي مثلكم هو أكبر دليل وأوضح آية على أنه من عند الله تعالى لا من عنده هو كما قال بأمر الله في آية أخرى {فقد لبثت فيكم عمرا من قبله} (يونس 16) جاوز الأربعين من السنين ولم يصدر عنه فيه شيء من مثله في علومه ولا في إخباره بالغيب ولا في أسلوبه ولا في فصاحته وبلاغته {أفلا تعقلون} (البقرة 44) أن مثل هذا لا يكون إلا بوحي من العليم الحكيم؟ ثم إن ما فصل فيه من سنن الله تعالى في طباع البشر وأخلاقهم وارتباط أعمالهم بما استقر في أنفسهم من الآراء والأفكار والأخلاق والعادات الموضح بقصص من قبلنا من الأمم برهان عملي على صحة ما حكم به في طلبكم الآية الكونية وزعمكم أنكم تؤمنون بها، وقد تقدم توجيهه في تفسير السياق الأخير في طلبها وفي أمثاله، كما تقدم بيان كون القرآن أدل على صحة الرسالة وصدق الرسول من جميع الآيات التي جاء بها الرسل عليهم السلام، وهو في مواضع من التفسير والمنار، ومن أقربها ما جاء في تفسير الآية 37 من هذه السورة (ج 7).
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ} أي والذين أعطيناهم علم الكتب المنزلة من قبله كعلماء اليهود والنصارى دون المقلدين منهم يعلمون أن هذا الكتاب منزل عليك من ربك بالحق. وبيان هذا من وجهين أحدهما: أن العالم بالشيء يميز بين ما كان منه وما لم يكن، فمن ألف كتابا في علم الطب كان الأطباء أعلم الناس بكونه طبيبا، ومن ألف كتابا في النحو كان النحاة أعلم الناس بكونه نحويا، كذلك المؤمنون بالوحي العالمون بما أنزل الله على أنبيائهم منه يعلمون أن هذا القرآن من جنس ذلك الوحي وفي أعلى مراتب الكمال منه وأن أوسع البشر علما لا يستطيع أن يأتي بمثله فكيف يستطيعه رجل أمي لم يقرأ ولم يكتب قبله شيئا {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} (العنكبوت 48} ولذلك قال تعالى في آية أخرى {أو لم يكن لهم آية ان يعلمه علماء بني إسرائيل} (الشعراء 197}
ثانيهما: أن في الكتب الأخيرة كالتوراة والإنجيل بشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم لم تكن تخفى على علمائهما في زمنه صلى الله عليه وسلم وقد بينا بعضها وسيأتي تفصيلها في الجزء التاسع وقال تعالى: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} (البقرة 146} وقد اعترف المنصفون من أولئك العلماء بذلك وآمنوا وكتم بعضهم الحق وأنكروه بغيا وحسدا كما بيناه في محله.
والخطاب في قوله تعالى: {فلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، على حد قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة، وقيل: لكل مخاطب أي فلا تكونن من الشاكين في ذلك. على أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشك في كون أهل الكتاب يعلمون أنه منزل بالحق مقرونا بإخباره به لا يقتضي جواز شكه فيه بعد هذا الإخبار فإن كان يشك فيه قبله فلا ضرر.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إنه سؤال على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم للاستنكار. استنكار أن يبتغي حكما غير الله في شأن من الشؤون على الاطلاق. وتقرير لجهة الحاكمية في الأمر كله، وإفرادها بهذا الحق الذي لا جدال فيه. ونفي أن يكون هناك أحد غير الله يجوز أن يتجه إليه طالباً حكمه في أمر الحياة كله: أفغير الله أبتغي حكماً؟.. ثم.. تفصيل لهذا الإنكار، وللملابسات التي تجعل تحكيم غير الله شيئاً مستنكراً غريباً.. إن الله لم يترك شيئاً غامضاً؛ ولم يجعل العباد محتاجين إلى مصدر آخر، يحكمونه في ما يعرض لهم من مشكلات الحياة: (وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً).. لقد نزل هذا الكتاب ليحكم بالعدل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ولتتمثل فيه حاكمية الله وألوهيته. ثم لقد نزل هذا الكتاب مفصلاً، محتوياً على المبادئ الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة جملة. كما أنه تضمن أحكاماً تفصيلية في المسائل التي يريد الله تثبيتها في المجتمع الإنساني مهما اختلفت مستوياته الاقتصادية والعلمية والواقعية جملة.. وبهذا وذلك كان في هذا الكتاب غناء عن تحكيم غير الله في شأن من شؤون الحياة.. هذا ما يقرره الله -سبحانه- عن كتابه. فمن شاء أن يقول: إن البشرية في طور من أطوارها لا تجد في هذا الكتاب حاجتها فليقل.. ولكن ليقل معه.. إنه -والعياذ بالله- كافر بهذا الدين، مكذب بقول رب العالمين! ثم إن هناك من حولهم ملابسة أخرى تجعل ابتغاء غير الله حكماً في شأن من الشؤون أمراً مستنكراً غريباً.. إن الذين أوتوا الكتاب من قبل يعلمون أن هذا الكتاب منزل من عند الله، وهم أعرف بالكتاب لأنهم من أهل الكتاب: (والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق).. ولقد كانت هذه ملابسة حاضرة في مكة وفي الجزيرة، يخاطب الله بها المشركين.. سواء أقر أهل الكتاب بها وجهروا -كما وقع من بعضهم ممّن شرح الله صدره للإسلام- أو كتموها وجحدوها -كما وقع من بعضهم فالأمر في الحالين واحد؛ وهو إخبار الله سبحانه- وخبره هو الصدق -أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من ربه بالحق.. فالحق محتواه؛ كما أن الحق متلبس بتنزيله من الله.. وما يزال أهل الكتاب يعلمون أن هذا الكتاب منزل من الله بالحق. وما يزالون يعلمون أن قوة هذا الدين إنما تنبثق من هذا الحق الذي يتلبس به، ومن هذا الحق الذي يحتويه. وما يزالون- من أجل علمهم بهذا كله -يحاربون هذا الدين، ويحاربون هذا الكتاب، حرباً لا تهدأ.. وأشد هذه الحرب وأنكاها، هو تحويل الحاكمية عن شريعة هذا الكتاب؛ إلى شرائع كتب أخرى من صنع البشر. وجعل غير الله حكماً، حتى لا تقوم لكتاب الله قائمة، ولا يصبح لدين الله وجود. وإقامة ألوهيات أخرى في البلاد التي كانت الألوهية فيها لله وحده؛ يوم كانت تحكمها شريعة الله التي في كتابه؛ ولا تشاركها شريعة أخرى، ولا يوجد إلى جوار كتاب الله كتب أخرى، تستمد منها أوضاع المجتمع، وأصول التشريعات، ويرجع إليها ويستشهد بفقراتها كما يستشهد المسلم بكتاب الله وآياته! وأهل الكتاب- من صليبيين وصهيونيين -من وراء هذا كله؛ ومن وراء كل وضع وكل حكم يقام لمثل هذه الأهداف الخبيثة! وحين يقرر السياق أن هذا الكتاب أنزله الله مفصلاً؛ وأن أهل الكتاب يعلمون أنه منزل من الله بالحق، يلتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن وراءه من المؤمنين به؛ يهون عليه وعليهم شأن التكذيب والجدل الذي يجدونه من المشركين؛ وشأن الكتمان والجحود الذي يجدونه من بعض أهل الكتاب: (فلا تكونن من الممترين).. وما شك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا امترى. ولقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم عندما أنزل الله عليه: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبلك. لقد جاءك الحق من ربك، فلا تكونن من الممترين).. قال:"لا أشك، ولا أسأل". ولكن هذا التوجيه وأمثاله؛ وهذا التثبيت على الحق ونظائره؛ تدل على ضخامة ما كان يلقاه صلى الله عليه وسلم والجماعة المسلمة معه من الكيد والعنت والتكذيب والجحود؛ ورحمة الله- سبحانه -به وبهم بهذا التوجيه والتثبيت...