{ قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } أى قل لهم يا محمد : الله وحده هو الذى ينجيكم من هذه المخاوف والأهوال ومن كل غم يأخذ بنفوسكم ، ثم أنتم بعد هذه النجاة تشركون معه غيره ، مخلفين بذلك وعدكم حانثين فى أيمانكم .
قال الإمام الرازى : " والمقصود من ذلك أنه عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد لا يرجع الإنسان إلا إلى الله ، وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا ، لأن الإنسان فى هذه الحالة يعظم إخلاصه فى حضرة الله ، وينقطع رجاؤه عن كل ما سواه ، وهو المراد من قوله { تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } فبين - سبحانه - أنه إذا شهدت الفطرة السليمة والخلقة الأصلية فى هذه الحالة بأن لا ملجأ إلى إلى الله ولا تعويل إلا على فضله ، وجب أن يبقى هذا الإخلاص فى كل الأحوال ، لكن الإنسان ليس كذلك فإنه بعد الفوز بالسلامة والنجاة يميل تلك السلامة إلى الأسباب الجسمانية ويقدم على الشرك .
ولفظ الآية يدل على أنه عند حصول الشدائد يأتى الإنسان بأمور :
وثالثها : الإخلاص بالقلب هو المراد من قوله { وَخُفْيَةً } .
ورابعها : التزام الاشتغال بالشكر . ونظير هذه الآية قوله - تعالى - { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } وقوله { وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } وبالجملة فعادة أكثر الناس أنهم إذا شاهدوا الأمر الهائل أخلصوا ، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا به " .
وقوله تعالى : { قل الله ينجيكم } الآية : سبق في المجادلة إلى الجواب ، إذ لا محيد عنه ، { ومن كل كرب } لفظ عام أيضاً ليتضح العموم الذي في الظمات ، ويصح أن يتأول من قوله { ومن كل كرب } تخصيص الظلمات قبل ، ونص عليها لهولها ، وعطف في هذا الموضع ب { ثم } للمهلة التي تبين قبح فعلهم ، أي ثم بعد معرفتكم بهذا كله وتحققكم به أنتم تشركون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب}: من أهوال كل كرب، يعني من كل شدة، {ثم أنتم تشركون} في الرخاء.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قل لهؤلاء العادلين بربهم سواه من الآلهة إذا أنت استفهمتهم عمن به يستعينون عند نزول الكرب بهم في البرّ والبحر: الله القادر على فرجكم عند حلول الكرب بكم، ينجيكم من عظيم النازل بكم في البرّ والبحر من هَم الضلال وخوف الهلاك ومن كرب كلّ سوى ذلك وهم، لا آلهتكم التي تشركون بها في عبادته، ولا أوثانكم التي تعبدونها من دونه، التي لا تقدر لكم على نفع لا ضرّ، ثم أنتم بعد تفضيله عليكم بكشف النازل بكم من الكرب ودفع الحال بكم من جسم الهمّ تعدلون به آلهتكم وأصنامكم فتشركونها في عبادتكم إياه، وذلك منكم جهل بواجب حقه عليكم وكفر لأياديه عندكم وتعرّض منكم لإنزال عقوبته عاجلا بكم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ثم أنتم تشركون} بعد علمكم أن الأصنام التي تعبدونا لم تملك الشفاعة لكم ولا الزلفى إلى الله؛ يذكر سفههم في عبادتهم الأوثان على علم منهم أنها لا تشفع، ولا تملك دفع شيء عنهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{قل الله ينجيكم...}: سبق في المجادلة إلى الجواب، إذ لا محيد عنه، {ومن كل كرب} لفظ عام أيضاً ليتضح العموم الذي في الظلمات، ويصح أن يتأول من قوله {ومن كل كرب} تخصيص الظلمات قبل، ونص عليها لهولها، وعطف في هذا الموضع ب {ثم} للمهلة التي تبين قبح فعلهم، أي ثم بعد معرفتكم بهذا كله وتحققكم به أنتم تشركون.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
"ثم أنتم تشركون" تقريع وتوبيخ، مثل قوله في أول السورة "ثم أنتم تمترون". لأن الحجة إذا قامت بعد المعرفة وجب الإخلاص، وهم قد جعلوا بدلا منه وهو الإشراك، فحسن أن يقرعوا ويوبخوا على هذه الجهة وإن كانوا مشركين قبل النجاة
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كانوا مقرين بأن فاعل ذلك هو الله، ولكنهم يكفرون نعمته، عدوا منكرين فأمره بالجواب غير منتظر لجوابهم بقوله: {قل الله} أي الذي له جميع العظمة {ينجيكم منها} أي من تلك الشدة {ومن كل كرب} أي وقعتم فيه، وما أعظم موقع قولُه: {ثم أنتم} مع التزام الإخلاص في وقت الكرب ومع التزام الشكر {تشركون} مشيراً إلى استبعاد نقضهم بأداة التراخي مع ما فيه من الجِناس لما كان ينبغي لهم من أنهم يشكرون.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
الكرب: الغم الشديد، مأخوذ من كرب الأرض وهو إثارتها وقلبها بالحفر إذ الغم يثير النفس كذلك، أو من الكرب (بالتحريك) وهو العقد الغليظ في رشاء الدلو (حبله) وقد يوصف الغم بأنه عقدة على القلب أي لما يشعر به المغموم من الضغط على قلبه والضيق في صدره، أو من أكربت الدلو إذا ملأته، أفاده الراغب. والمعنى أن الله ينجيكم المرة بعد المرة من تلك الظلمات ومن كل كرب يعرض لكم، ثم أنتم تشركون به غيره بعد النجاة أقبح الشرك، مخلفي وعدكم له بالشكر، حانثين بما وكدتموه به من اليمين، مواظبين على هذا الشرك مستمرين، لا تكادون تنسونه إلا عند ظلمة الخطب، وشدة الكرب، وأجلى شرككم أنكم تدعون أولياء من دون الله، وتسندون إليهم الأعمال إن لم يكن بالاستقلال فبالشفاعة عند الله، حتى إنكم لا تستثنون منها تلك النجاة. وهذه الحجة من أبلغ الحجج لمن تأملها، ولذلك تكرر في التنزيل ذكرها، وطالما ذكرناها في آيات التوحيد ودلائله، وأقرب بسط لها ما أوردناه في تفسير الآيتين من هذه السورة وفيه شواهد بمعنى هاتين الآيتين. فليراجع (ج7 تفسير).
قرأ عاصم وحمزة والكسائي (ينجيكم) بالتشديد في الموضعين من التنجية والباقون بالتخفيف فيهما من الإنجاء وهما لغتان في تعدية نجا ينجو، يقال نجاه وأنجاه ونطق بهما القرآن في غير هاتين الآيتين أيضا، ولكن في التشديد من المبالغة والدلالة على التكرار ما ليس في التخفيف. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر (خفية) بكسر الخاء والباقون بضمها وهما لغتان كما تقدم. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي (أنجانا) على الغيبة فعاصم فخمها والآخرون قرأوها بالإمالة، وقرأ الباقون (أنجيتنا) على الخطاب. وهي مرسومة في المصحف الإمام هكذا (أنجينا) وقراءة الغيبة أقوى مناسبة للفظ، والخطاب أشد تأثيرا في النفس.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
والخلاصة: إنه إذا شهدت الفطرة السليمة بأنه لا ملجأ في هذه الحالة إلا إلى الله ولا تعويل إلا على فضله، فالواجب أن يبقى هذا الإخلاص في جميع الأحوال والأوقات، لكن الإنسان بعد الفوز بالسلامة والنجاة يحيل ذلك إلى الأعمال الجسمانية أو إلى نحو ذلك من الأسباب ويعود إلى الشرك في العبادة ولا يوفي بالعهد. وفي الآية تنبيه إلى أن من أشرك في عبادته تعالى غيره فكأنه لم يعبده رأسا، فالتوحيد ملاك الأمر وأساس العبادة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة: {قل الله ينجيكم منها} تلقين لجواب الاستفهام من قوله: {مَنْ يُنجّيكم} أن يُجيب عن المسؤولين، ولذلك فصلت جملة {قل} لأنَّها جارية مجرى القول في المحاورة، كما تقدّم في هذه السورة. وتولَّى الجواب عنهم لأنّ هذا الجواب لا يسعهم إلاّ الاعتراف به.
وقدّم المسند إليه على الخبر الفعلي لإفادة الاختصاص، أي الله ينجيكم لا غيره، ولأجل ذلك صرّح بالفعل المستفهم عنه. ولولا هذا لاقتصر على {قل الله}. والضمير في {منها} للظلمات أو للحادثة. وزاد {مِنْ كلّ كرب} لإفادة التعميم، وأنّ الاقتصار على ظلمات البرّ والبحر بالمعنيين لمجرّد المثال...
... و {ثم} من قوله: {ثم أنتم تشركون} للترتيب الرتبي لأنّ المقصود أنّ إشراكهم مع اعترافهم بأنَّهم لا يلجؤون إلاّ إلى الله في الشدائد أمر عجيب، فليس المقصود المهلة.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي لمجرّد الاهتمام بخبر إسناد الشرك إليهم، أي أنتم الذين تتضرّعون إلى الله باعترافكم تُشركون به من قَبل ومن بعد، من باب {ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم} [البقرة: 85]، ومن باب: لو غيرُك قالها، ولو ذاتُ سِوار لَطَمَتْنِي.
وجيء بالمسند فعلاً مضارعاً لإفادة تجدّد شركهم وأنّ ذلك التجدّد والدوامَ عليه أعجب.
والمعنى أنّ الله أنجاكم فوعدتم أن تكونوا من الشاكرين فإذا أنتم تشركون. وبيْن {الشاكرين} و {تشركون} الجناس المحرّف.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ تأمر الآية النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخبرهم أنّ الله سوف ينجيهم من هذه ومن غيرها من الأخطار، وقد فعل ذلك من قبل مراراً، ولكنّهم بعد زوال الخطر عنهم يعودون إِلى طريق الشرك والكفر: (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثمّ أنتم تشركون).
هنا لابدّ من الالتفات إِلى عدّة نقاط:
-لعل ذكر «التضرع» وهو الدعاء علانية، و«الخفية» هي الدّعاء في السرّ، إِشارة إِلى أنّ المصائب تختلف، فالتي لم تصل مرحلة شديدة قد تستدعي الدعاء خفية، وعندما تكون شديدة تحمل المرء على أن يرفع يديه بالدعاء جهراً، وقد يصاحب ذلك البكاء والصراخ، أي أنّ الله يحل مشاكلكم خفيفها وشديدها.
- يرى بعضهم أنّ الآية تشير إِلى أربع حالات نفسية في الإِنسان، كل واحدة منها ردة فعل معينة لظهور المشاكل: حالة «الدعاء» وحالة «التضرع» وحالة «الإِخلاص» وحالة «تقديم الشكر عند النجاة من الأخطار».
ولكنّ الذي يؤسف له أن هذه الحالات تمر ببعض الناس مروراً خاطفاً وكأنّها حالات اضطرارية في مواجهة الأخطار والمشاكل، وبما أنّها ليست مصحوبة بالوعي والإِدراك، فأنّها تخفت وتنطفئ بمجرّد انتهاء الأزمة.
وبناء على ذلك، فإِن هذه الحالات، وان تكن خاطفة، تستطيع أن تكون دليلا على معرفة الله لمن عسر عليه إدراك الدلائل الأُخرى.
-«الكرب» في الأصل بمعنى حفر الأرض وقلبها، وكذلك تعني العقدة المحكمة الشد في حبل الدلو، ثمّ أطلقت بعد ذلك على الغم والهم والحزن التي تقلب قلب الإِنسان وتثقل عليه كالعقدة.
لذلك فإِنّ ذكر «الكرب» بما له من المعنى الواسع الذي يشمل أنواع المشاكل والأزمات بعد ذكر (ظلمات البرّ والبحر) والتي تشمل جانباً من المشاكل فقط، يعتبر من قبيل ذكر مفهوم عام بعد بيان مفهوم خاص (تأمل بدقة).