محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُم مِّنۡهَا وَمِن كُلِّ كَرۡبٖ ثُمَّ أَنتُمۡ تُشۡرِكُونَ} (64)

[ 64 ] { قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون ( 64 ) } .

ثم أمره تعالى بالجواب تنبيها على ظهوره وتعينه عندهم ، أو إهانة لهم إذ لا يلتفتون لخطابه بقوله : { قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب } أي : من غير شفاعة أحد ولا عون ، { ثم أنتم تشركون } أي : ثم أنتم بعد ما تشاهدون من النجاة عنها ، الموعود فيها بالشكر وعدا وثيقا بالقسم ، تشركون ، بعبادته والثناء عليه ، غيره . وتنسبون النجاة الحاصلة بعد تخصيصه بالدعوة ، على شفاعة الشريك ، فقد جعلتم الشرك مكان الشكر .

تنبيهات

الأول- ما قدمناه من ظلمات { البر والبحر } مجاز عن مخاوفها وأهوالها ، هو ما قاله المحققون .

قال الرازي : ومنهم من حمله على حقيقته فقال : أما ظلمات البحر ، فهي أن تجتمع ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة السحاب ، ويضاف الرياح الصعبة ، والأمواج الهائلة إليها ، فلم يعرفوا كيفية الخلاص . وعظم الخوف . وأما ظلمات البر ، فهي ظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، والخوف الشديد من هجوم الأعداء والخوف الشديد من عدم الاهتداء إلى طريق الصواب . والمقصود أن عند اجتماع هذه الأسباب الموجبة للخوف الشديد ، لا يرجع / الإنسان إلا إلى الله تعالى . وهذا الرجوع يحصل ظاهرا وباطنا ، لأن الإنسان في هذه الحالة يعظم إخلاصه في حضرة الله تعالى ، وينقطع رجاؤه عن كل ما سوى الله تعالى . وهو المراد من قوله : { تضرعا وخفية } . فبين تعالى أنه إذا شهدت الفطرة السليمة ، والخلقة الأصلية في هذه الحالة بأنه لا ملجأ إلا إلى الله ، ولا تعويل إلا على فضل الله ، وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات . ولكنه ليس كذلك ، ومن المفسرين من يقول : المقصود من هذه الآية الطعن في إلهية الأصنام والأوثان .

ثم قال الرازي رحمه الله ، وأنا أقول : التعلق بشيء مما سوى الله في طريق العبودية ، يقرب من أن يكون تعلقا بالوثن ، ولذلك فإن أهل التحقيق يسمونه بالشرك الخفي . انتهى .

الثاني- قال بعض المفسرين : دل قوله تعالى : { تدعونه تضرعا وخفية } على أن دعاء السر أفضل . قيل : وكان جهر النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء ليعلم غيره . انتهى .

وهذا بناء على أن قوله تعالى : { تضرعا } تذللا ، لا جهرا . وكثير من المفسرين ذهب إلى أن المعنى جهرا وسرا ، ولعله الصواب . فإن العيان يؤيده ، إذ لا يتمالك من اشتد عليه الأمر ، وأظلم عليه طريق الخلاص ، على الاقتصار على دعاء السر وحده-والله أعلم- .

وفي ( القاموس وشرحه ) : تضرع إلى الله ، أي : ابتهل وتذلل . وقيل : أظهر الضراعة ، وهي شدة الفقر والحاجة إلى الله تعالى : ومنه قوله تعالى : { تضرعا وخفية } أي : مظهرين الضراعة ، وحقيقة الخشوع . انتهى .

الثالث- المراد بالكرب ما يعم ما تقدم ، ولا محذور في التعميم بعد التخصيص ، لكثرة وروده . أو ما يعتري المرء من العوارض النفسية التي لا تتناهى ، كالأمراض والأسقام / وما قيل ؛ إن المراد بالأول كرب مخصوص ، أو الأولى نعمة رفع ، وهذه نعمة دفع ، وأنه من قبيل ( متقلدا سيفا ورمحا ) - تكلف لا داعي له- كذا في ( العناية ) - .

الرابع- وضع { تشركون } ، موضع ( لا تشكرون ) الذي هو مقتضى الظاهر المناسب لقوله : { لنكونن من الشاكرين } لأن إشراكهم تضمن عدم صحة عبادتهم ، وشكرهم لأنه عبادة ، بل نفيها لعدم الاعتداد بها معه . إذ التوحيد ملاك الأمر ، وأساس العبادة ، فوضعه موضعه توبيخا لهم ، لعدم الوفاء بالعهد . ولم يذكر متعلقه لتنزيله منزلة اللام ، تنبيها على استبعاد الشرك في نفسه – كذا في ( العناية ) - .