{ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ } من الثواب ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . فكل ما تعلقت به إرادتهم ومشيئتهم ، من أصناف اللذات والمشتهيات ، فإنه حاصل لهم ، معد مهيأ ، { ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } الذين يعبدون اللّه كأنهم يرونه ، فإن لم يكونوا يرونه فإنه يراهم { الْمُحْسِنِينَ } إلى عباد اللّه .
ثم بين - سبحانه - ما أعده لهؤلاء المتقين من نعيم فقال { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ . . . } .
أى : لهؤلاء المتقين كل ما يشاءونه عند ربهم ومالك أمرهم ، بسبب تصديقهم للحق ، واتباعهم لما جاءهم به رسولهم صلى الله عليه وسلم .
وفى قوله : { عِندَ رَبِّهِمْ } تكريم وتشريف لهم .
وقوله : { ذَلِكَ جَزَآءُ المحسنين } أى : ذلك الذى ذكرناه من حصولهم على ما يشتهونه جزاء من أحسنوا فى أقوالهم وأفعالهم .
{ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ } يعني : في الجنة ، مهما طلبوا وجدوا ، { ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } كما قال في الآية الأخرى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ } [ الأحقاف : 16 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لهم ما يشاءون} في الجنة {عند ربهم} من الخير.
{ذلك جزاء المحسنين} يعني الموحدين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"لَهُمْ ما يَشاءُونَ عِنْدَ رَبّهِمْ" يقول تعالى ذكره: لهم عند ربهم يوم القيامة، ما تشتهيه أنفسهم، وتلذّه أعينهم.
"ذلكَ جَزَاءُ المُحْسِنِينَ "يقول تعالى ذكره: هذا الذي لهم عند ربهم، جزاء من أحسن في الدنيا فأطاع الله فيها، وأتمر لأمره، وانتهى عما نهاه فيها عنه.
هذا الوعد يدخل فيه كل ما يرغب المكلف فيه، فإن قيل لا شك أن الكمال محبوب لذاته مرغوب فيه لذاته، وأهل الجنة لا شك أنهم عقلاء فإذا شاهدوا الدرجات العالية التي هي للأنبياء وأكابر الأولياء عرفوا أنها خيرات عالية ودرجات كاملة، والعلم بالشيء من حيث إنه كمال، وخير يوجب الميل إليه والرغبة فيه، وإذا كان كذلك فهم يشاءون حصول تلك الدرجات لأنفسهم فوجب حصولها لهم بحكم هذه الآية، وأيضا فإن لم يحصل لهم ذلك المراد كانوا في الغصة ووحشة القلب، وأجيب عنه بأن الله تعالى يزيل الحقد والحسد عن قلوب أهل الآخرة، وذلك يقتضي أن أحوالهم في الآخرة بخلاف أحوالهم في الدنيا...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{لهم ما يشاءون}: عام في كل ما تشتهيه أنفسهم وتتعلق به إرادتهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما مدحهم على تقواهم، قال في جواب من سأل عن ثوابهم، فقال لافتاً القول إلى صفة الإحسان تعريفاً بمزيد إكرامهم: {لهم ما يشآءون} أي يتجدد لهم إرادته متى أرادوه.
{عند ربهم} أي المحسن إليهم اللطيف بهم في الدنيا والآخرة؛ لأنهم سلموا له في الأولى ما يشاء، فسلم لهم في الأخرى ما يشاؤون.
ولما كان أعظم الجزاء، مدحه على وجه بين علته وأوجب عمومه فقال: {ذلك} أي الثواب الكبير.
{جزاء المحسنين} أي كل من اتصف بالإحسان كما اتصفوا به بالتقوى، فأحبه الله سبحانه كما أحبهم، فكان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
معنى {عند ربِّهم} أن الله ادّخر لهم ما يبتغونه، وهذا من صيغ الالتزام ووعدِ الإِيجابِ، يقال: لك عندي كذا أي ألتزِمُ لك بكذا، ثم يجوز أن الله يلهمهم أن يشاءوا ما لا يتجاوز قدرَ ما عَين الله من الدرجات في الجنة، فإن أهل الجنة متفاوتون في الدرجات...
ويجوز أن {مَا يَشاءُون} مما يقع تحت أنظارهم في قُصورهم، ويحجب الله عنهم ما فوق ذلك بحيث لا يسألون إلا ما هو من عطاءِ أمثالهم وهو عظيم، ويقلع الله من نفوسهم ما ليس من حظوظهم.
ويجوز أن {مَا يَشاءُون} كناية عن سعة ما يُعطَوْنَه كما ورد في الحديث "ما لا عينٌ رأتْ ولا أذنٌ سَمِعَت ولا خطَر على قلب بشر".
وعُدل عن اسم الجلالة إلى وصف {رَبِّهم} في قوله: {عِندَ رَبِّهم} إيماء إلى أنه يعطيهم عطاءَ الربوبية والإِيثار بالخير...
ثم نوه بهذا الوعد بقوله: {ذلك جزاء المُحسنين} والمشار إليه هو ما يشاءون؛ لِما تضمنه من أنه جزاء لهم على التصديق، وأشير إليه باسم الإِشارة لتضمنه تعظيماً لشأن المشار إليه.
والمراد بالمحسنين أولئك الموصوفون بأنهم المتقون، وكانَ مقتضى الظاهر أن يؤتى بضميرهم فيقال: ذلك جزاؤهم، فوقع الإِظهار في مقام الإِضمار لإِفادة الثناء عليهم بأنهم محسنون...
قوله: {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ} أي: متوفر لهم كلّ ما يشاءون، لكن عند مَنْ؟ {عِندَ رَبِّهِمْ} حين تكون لا عندية إلا لله وحده، هذه العندية هي معنى قوله تعالى: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16].
فالعندية تكون للناس في الدنيا، فهذا موظف عند هذا، وهذا خادم عند هذا، أما في الآخرة فالعندية لله وحده، وفي هذه العندية ينال المؤمن ما اشتهاه في الدنيا ولم يحصل عليه في الآخرة يقول الله {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} ولم يقُلْ لهم ما يشاءون، بل ما يشاءون عندي أنا. أي: بلا أسباب، لأن الأسباب كانت في الدنيا، وما تريده بالأسباب قد لا يتحقق لك، وإنْ كان في يدك لأن الله يزاول سلطانه بواسطة خلفائه في الأرض، فيجعل هذا سبباً في رزق هذا، وهذا يعين هذا، والأسباب قد تتخلف أما في الآخرة فلا أسبابَ، بل هو عطاء الله المباشر بلا سبب...
فإنْ كانت للمؤمن مشيئات لا تتحقق في الدنيا فهي مُدَّخرة له في الآخرة عند ربه، هذه المشيئات التي لا تتحقق يسترها شيء واحد أن أكرم المشيئة أنْ تشاء من الله أنْ ينصر دينه، وقد تحققت هذه المشيئة.
إذن: فالمشيئة التي لا تتحقق هي التي تعود على نفسك، أما المشيئة التي تطابق الإيمان بمنهج الله فهي لا بُدَّ متحققة كما تحققت مثلاً في بدر.
فالحق -سبحانه وتعالى- يريد منا حين نكون مؤمنين به ومُصدِّقين لرسوله ألاَّ تكون لنا مشيئة في غير ديننا؛ لأن المشيئة في غير الدين يمكن أن تكون في أيدي الناس فلا يحققوها لك، وربما مات المؤمن قبل أنْ يرى مشيئته بنصر الله فيدخر له ذلك في الآخرة.
إذن: المهم عنده أن تكونَ المشيئة خاصة بنصر دين الله على مَنْ يكذبه ويخالفه، وهذه المشيئة متحققة بدليل: {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 173].
وقوله: {ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ} صحيح هناك عمل، وهناك فضل، وتشريع الجزاء على العمل من الفضل؛ لأن ربنا حينما يثيبني على شيء يعود عليَّ بالنفع يُعد هذا الجزاء زيادة، والأصل أن يقول لي: لقد أخذتَ جزاءك منفعةً بالعمل الذي عملته؛ لأن خالقك أعطاك كل الأسباب، أعطاك الجوارح التي تعمل بها، وأعطاك الأرض والمال والهواء والماء والطعام، فإنْ أثابك على العمل كان من فضله.
والمحسن درجةٌ أعلى من المؤمن، فالمؤمن يأخذ ما فرضه الله عليه ويُنفِّذه دون زيادة، أما المحسن فهو الذي يؤدي ما فرض الله عليه ويزيد عليه من جنس ما فرض الله، فمثلاً يصلي الصلوات الخمس ثم يزيد عليها ما شاء من النوافل من صلاة الليل، كما قال سبحانه في المحسنين: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 17-19].
ولم يقل هنا (حق معلوم) لأن الحق المعلوم هو الزكاة، أما في هذا المقام فالعبد يُزكِّي ماله، ثم يزيد على ذلك ما شاء من التطوع والصدقات، وهذه الزيادات ما طلبها منك ربك، إنما تؤديها محبةً وتقرباً إليه سبحانه.
إذن: كلمة الإحسان عند الله فيها نفس معنى الإحسان للناس. تقول: أحسنت إلى فلان حين تعطيه أكثر من حقه. وحين يجازي الله المحسنَ إنما يعطيه جزاءَ إحسانه، فإذا كان العبد يحسن فالله أوْلَى وأكرم.
والحق سبحانه أعطانا المثَل الحسِّي للإحسان في الأرض، وما تُخرجه من ثمراتها فأنت تضع فيها حبة القمح مثلاً، فتعطيك في المقابل سبعمائة حبة، فإذا كان هذا هو عطاء الأرض المخلوقة لله تعالى، فما بالك بعطاء الخالق سبحانه؟ فالمعنى: {لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ} لماذا؟ لأنهم كانوا محسنين، وهذا جزاء الإحسان.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
عبارة: (عند ربّهم) تبيّن عدم انقطاع اللطف الإلهي عن أُولئك وكأنّهم ضيوف الله على الدوام، وكلّ ما يطلبونه يوفر لهم...