أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً } أى : غائراً ذاهبا فى الأرض . فالغور مصدر وصف به على سبيل المبالغة وهو بمعنى الفاعل . يقال : غار الماء يغور غورا : أى : سفل فى الأرض وذهب فيها .
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ }
{ فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } أى : فلن تستطيع أن تحصل عليه أو تطلبه بأية حيلة من الحيل ، لأنه لا يقدر على الإِتيان بهذا الماء الغائر إلا الله - عز وجل - .
وإلى هنا نجد أن الرجل المؤمن قد رد على صاحبه الكافر ، بما يذكره بمنشئه ، وبما يوجهه إلى الأدب الذى يجب أن يتحلى به مع خالقه ورازقه ، وبما يحذره من سوء عاقبة بطره .
وهكذا الإِيمان الحق ، يجعل المؤمن يعتز بعقيدته ، ويتجه إلى الله وحده الذى تعنو له الجباه ، ويرجو منه وحده ما هو خير من بساتين الدنيا وزينتها .
وقوله : { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا } أي : غائرًا في الأرض ، وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض ، فالغائر يطلب أسفلها{[18189]} كما قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ } [ الملك : 30 ] أي : جار وسائج . وقال هاهنا : { أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا } والغور : مصدر بمعنى غائر ، وهو أبلغ منه ، كما قال الشاعر{[18190]} :
تَظَلّ جيّادُهُ نَوْحًا عَلَيه *** تُقَلّدُهُ أعنَّتَها صُفُوفا
وقوله : أوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرا يقول : أو يصبح ماؤها غائرا فوضع الغور وهو مصدر مكان الغائر ، كما قال الشاعر :
تَظَلّ جِيادُهُ نَوْحا عَلَيْهِ *** مُقَلّدَةً أعِنّتَها صُفُونا
هَرِيقي مِنْ دُمُوعِهِما سَجامَا *** ضُباعَ وجَاوِبي نَوْحا قِيامَا
والعرب توحد الغَور مع الجمع والاثنين ، وتذكر مع المذكر والمؤنث ، تقول : ماء غور ، وماءان غَوْر ومياه غَور . ويعني بقوله : غَوْرا ذاهبا قد غار في الأرض ، فذهب فلا تلحقه الرّشاء ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرا أي ذاهبا قد غار في الأرض .
وقوله : فَلنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَبا يقول : فلن تطيق أن تدرك الماء الذي كان في جنتك بعد غَوْره ، بطلبك إياه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أو يصبح ماؤها غورا}، يعني: يغور في الأرض فيذهب،
{فلن تستطيع له طلبا}، يقول: فلن تقدر على الماء، ثم افترقا، فأرسل الله عز وجل على جنته بالليل عذابا من السماء فاحترقت، وغار ماؤها بقوله: و {ما أظن أن تبيد هذه أبدا}، {وما أظن الساعة قائمة}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"أوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْرا" يقول: أو يصبح ماؤها غائرا... ويعني بقوله: "غَوْرا": ذاهبا قد غار في الأرض، فذهب فلا تلحقه الرّشاء...
وقوله: "فَلنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَبا "يقول: فلن تطيق أن تدرك الماء الذي كان في جنتك بعد غَوْره، بطلبك إياه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أو يصبح ماؤها غورا} هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول: {ويرسل عليها حسبانا من السماء} أي عذابا، فتصير صعيدا زلقا أملس.
والثاني: يذهب بمائها، فتهلك بذهاب الماء؛ إذ هلاك البساتين يكون بذهاب الماء مرة وبالعذاب النازل...
{فلن تستطيع له طلبا} هذا يحتمل وجهين:
أحدهما: {فلن تستطيع له طلبا} أي تصير بحال لا تستطيع له طلبا.
والثاني: لن تستطيع له وجودا...
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
والمراد بالطلب هاهنا: الوصول، فقام الطلب مقامه لأنه سببه.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا} أي: غائرًا في الأرض، وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض، فالغائر يطلب أسفلها كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] أي: جار وسائج.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
وإنما دعا على جنته المؤمن، غضبا لربه، لكونها غرته وأطغته، واطمأن إليها، لعله ينيب، ويراجع رشده، ويبصر في أمره.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أو أنَّهُ سبحانه وتعالى يُعطي أوامرَه إلى الأرض كي تَمْنَعَكِ الماءَ: (أو يصبح ماؤها غوراً فلن تستطيع لهُ طلباً)...
إِنَّ الرجل المؤمن والموحِّد... أراد أن يقول لصاحبه: لقد رأيت بعينيك أو على الأقل سمِعتَ بأذنك كيف أنَّ الصواعق السماوية جعلت مِن البساتين والبيوت والمزروعات وخلال لحظة واحدة تلاًّ مِن التراب والدمار وأصبحت أرضهم يابسة عديمة الماء والكلأ. وأيضاً سمعت أو رأيت قِيامَ هزة أرضية تطمس الأنهار وتُجفِّف العيون، بحيث تكون غير قابلة للإِصلاح والترميم. وبمعرفتك لكل هذه الأُمور فَلِمَ هذا الغرور؟! أنت الذي شاهدت أو سمعت كل هذا، فَلِمَ هذا الاِنْشِدادُ للأرض والهوى؟...