ثم وضح - سبحانه - كيفية خلق الإِنسان فقال : { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } أى : خلق الله - تعالى - الإِنسان من نطفة ، أى : من ماء قليل يخرج من الرجل إلى رحم المرأة - { فقدره } أى : فأوجد الله - تعالى - الإِنسان بعد ذلك إيجادا متقنا محكما ، حيث صير بقدرته النطفة علقة فمضغة . . ثم أنشأه خلقا آخر ثُمَّ خَلَقْنَا
قول تعالى ذكره : من أيّ شيء خلق الإنسانَ الكافرَ ربّه حتي يَتَكَبّرَ . ويتعظّم عن طاعة ربه ، والإقرار بتوحيده ثم بين جلّ ثناؤه الذي منه خلقه ، فقال : مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدّرَهُ أحوالاً : نطفة تارة ، ثم عَلَقة أخرى ، ثم مُضْغة ، إلى أن أتت عليه أحواله ، وهو في رحم أمه ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ يقول : ثم يسّره للسبيل ، يعني للطريق .
واختلف أهل التأويل في السبيل الذي يسّره لها ، فقال بعضهم : هو خروجه من بطن أمه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ يعني بذلك : خروجه من بطن أمه يسّره له .
حدثني ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ قال : سبيل الرّحِم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن السديّ ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ قال : خروجه من بطن أمه .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ثُمّ السَبِيلَ يَسّرَهُ قال : خروجه من بطن أمه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ قال : أخرجه من بطن أمه .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : طريق الحقّ والباطل ، بيّناه له وأعملناه ، وسهلنا له العمل به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن مجاهد ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ قال : هو كقوله : إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ إمّا شاكِرا وَإمّا كَفُورا .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ قال : على نحو إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : سبيل الشقاء والسعادة ، وهو كقوله : إنّا هَدَيْناهُ السّبِيلَ .
حدثنا ابن عبدالأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : قال الحسن ، في قوله : ثُمّ السّبيلَ يَسّرَهُ قال : سبيل الخير .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ثُمّ السّبِيلَ يَسّرَهُ قال : هداه للإسلام الذي يسّره له ، وأعلمه به ، والسبيل سبيل الإسلام .
وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب . قول من قال : ثم الطريق ، وهو الخروج من بطن أمه يسّره .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالصواب ، لأنه أشبههما بظاهر الاَية ، وذلك أن الخبر من الله قبلها وبعدها عن صفته خلقه ، وتدبيره جسمه ، وتصريفه إياه في الأحوال ، فالأولى أن يكون أوسط ذلك نظير ما قبله وبعده .
والضمير المستتر في قوله : { خلقه } عائد إلى لله تعالى المعلوم من فعل الخلق لأن المشركين لم يكونوا ينكرون أن الله خالق الإنسان .
وقدم الجار والمجرور في قوله : { من نطفة خلقه } محاكاة لتقديم المبيَّن في السؤال الذي اقتضى تقديمَه كونُه استفهاماً يستحق صدر الكلام ، مع الاهتمام بتقديم ما منه الخلق ، لما في تقديمه من التنبيه للاستدلال على عظيم حكمة الله تعالى إذ كوّن أبدع مخلوققٍ معروف من أهون شيء وهو النطفة .
وإنما لم يستغن عن إعادة فعل خلقه في جملة الجواب مع العلم به بتقدم ذكر حاصله في السؤال لزيادة التنبيه على دقة ذلك الخلق البديع .
فذكر فعل { خلقه } الثاني من أسلوب المساواة ليس بإيجاز ، وليس بإطناب .
والنطفة : الماء القليل ، وهي فُعلة بمعنى مفعولة كقولهم : قُبضةُ حَب ، وغُرفة ماء . وغلب إطلاق النطفة على الماء الذي منه التناسل ، فذُكرت النطفة لتعيُّن ذكرها لأنها مادة خلق الحيوان للدلالة على أن صنع الله بديع فإمكان البعث حاصل ، وليس في ذكر النطفة هنا إيماء إلى تحقير أصل نشأة الإنسان لأن قصد ذلك محل نظر ، على أن المقام هنا للدلالة على خلققٍ عظيم وليس مقام زجر المتكبر .
وفُرع على فعل { خلقه } فعلُ { فقدره } بفاء التفريع لأن التقدير هنا إيجاد الشيء على مقدار مضبوط منظم كقوله تعالى : { وخلق كل شيء فقدره تقديراً } [ الفرقان : 2 ] أي جعل التقدير من آثار الخلق لأنه خلقه متهيئاً للنماء وما يلابسه من العقل والتصرف وتمكينه من النظر بعقله ، والأعمال التي يريد إتيانها وذلك حاصل مع خلقه مدرَّجاً مفرعاً .
وهذا التفريع وما عطف عليه إدماج للامتنان في خلال الاستدلال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.