السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{مِن نُّطۡفَةٍ خَلَقَهُۥ فَقَدَّرَهُۥ} (19)

ثم بينه بقوله تعالى : { من نطفة } أي : ماء يسير جدّاً لا من غيره . { خلقه } أي : أوجده مقدّراً على ما هو عليه من التخطيط { فقدّره } أي : علقة ثم مضغة إلى آخر خلقه فكأنه قيل : وأي سبب في هذا الترفع مع أنّ أوّله نطفة مذرة وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بين الوقتين حامل عذرة ، فإنّ خلقة الإنسان تصلح أن يستدل بها على وجود الصانع ؛ لأنه يستدل بها على أحوال البعث والحشر . قيل : نزلت في عتبة بن أبي لهب والظاهر العموم .

فإن قيل : الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز فالقادر على الكل كيف يليق به ذلك ، والتعجب أيضاً إنما يليق بالجاهل بسبب الشيء ، فالعالم به كيف يليق به ذلك ؟ أجيب : بأنّ ذلك ورد على أسلوب كلام العرب لبيان استحقاقهم لأعظم العقاب حيث أتوا بأعظم القبائح . كقولهم إذا تعجبوا من شيء : قاتله الله ما أحسنه ، وأخزاه الله ما أظلمه ، والمعنى : اعجبوا من كفر الإنسان بجميع ما ذكرنا بعد هذا .

وقيل : الاستفهام استفهام تحقير له فذكر أوّل مراتبه وهو قوله تعالى : { من نطفة خلقه } ولا شك أنّ النطفة شيء حقير مهين ، ومن كان أصله ذلك كيف يتكبر وقوله تعالى : { فقدّره } أي : أطواراً وقيل : سوّاه كقوله تعالى : { ثم سوّاك رجلاً } [ الكهف : 37 ] أو قدّر كل عضو في الكيفية والكمية بالقدر اللائق لمصلحته كقوله تعالى : { وخلق كل شيء فقدّره تقديراً } [ الفرقان : 2 ] .