وقوله { يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا . . . } من بديع الإِيجاز بالحذف في القرآن الكريم ، لأن المحذوف لا يتعلق بذكره غرض .
والتقدير : قال لهم أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون إلى من عند العلم بذلك ، فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال له : يا يوسف يأيها الصديق .
والصديق : هو الإِنسان الذي صار الصدق دأبه وشيمته في كل أحواله ، ووصفه بذلك لأنه جرب منه الصدق التام أيام أن كان معه في السجن .
وقوله " أفتنا " أى فسر لنا تلك الرؤيا التي رآها الملك ، والتى عجز الناس عن تفسيرها ، وهى أن الملك رأى في منامه { سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ } .
وقوله { لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ } تعليل لطلب الفتوى ، وبيان لأهميتها بالنسبة له وليوسف - عليه السلام .
أى : فسر لنا هذه الرؤيا { لعلي أَرْجِعُ إِلَى الناس } تعليل لطلب الفتوى ، وبيان لأهميتها بالنسبة له وليوسف - عليه السلام .
أى : فسر لنا هذه الرؤيا تأويلا مجردا بل يؤولها تأويلا صادقا صحيحا ، ومعه النصح والإِرشاد إلى ما يجب عمله في مثل هذه الأحوال ، فقال : - كما حكى القرآن عنه - : { قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً . . . }
أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون . ويسدل الستار هنا ، ليرفع في السجن على يوسف وصاحبه هذا يستفتيه :
( يوسف - أيها الصديق - أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف ، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات ، لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون ) . .
والساقي يلقب يوسف بالصديق ، أي الصادق الكثير الصدق . وهذا ما جربه في شأنه من قبل . .
( أفتنا في سبع بقرات سمان . . . ) . .
ونقل ألفاظ الملك التي قالها كاملة ، لأنه يطلب تأويلها ، فكان دقيقا في نقلها ، وأثبتها السياق مرة أخرى ليبين هذه الدقة أولا ، وليجيء تأويلها ملاصقا في السياق لذكرها .
المعنى : فجاء الرسول - وهو الساقي - إلى يوسف فقال له : يا يوسف { أيها الصديق } - وسماه صديقاً من حيث كان جرب صدقه في غير شيء - وهو بناء مبالغة من صدق ، وسمي أبو بكر صديقاً من صدق غيره ، إذ مع كل تصديق صدق ، فالمصدق بالحقائق صادق أيضاً ، وعلى هذا سمي المؤمنون صديقين في قوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون }{[6707]} .
ثم قال : { أفتنا في سبع بقرات } أي فيمن رأى في منام سبع بقرات ، وحكى النقاش حديثاً روى فيه : أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف في السجن وبشره بعطف الله تعالى عليه ، وأخرجه من السجن وأنه قد أحدث للملك منامة جعلها سبباً لفرج يوسف . ويروى أن الملك كان يرى { سبع بقرات سمان } يخرجن من نهر ، وتخرج وراءها { سبع عجاف } ، فتأكل العجاف السمان ، فكان يعجب كيف غلبتها وكيف وسعت السمان في بطون العجاف{[6708]} ، وكان يرى { سبع سنبلات خضر } وقد التفت بها سبع يابسات ، حتى كانت تغطي خضرتها فعجب أيضاً لذلك .
وقوله : { لعلهم يعلمون } أي تأويل هذه الرؤيا ، فيزول هم الملك لذلك وهم الناس . وقيل : { لعلهم يعلمون } مكانتك من العلم وكنه فضلك فيكون ذلك سبباً لتخلصك .
الخطاب بالنداء مؤذن بقول محذوف في الكلام ، وأنه من قول الذي نجا وادكر بعد أمة . وحُذف من الكلام ذكر إرساله ومشيه ووصوله ، إذ لا غرض فيه من القصة . وهذا من بديع الإيجاز .
و { الصدّيق } أصله صفةُ مبالغة مشتقة من الصّدْق ، كما تقدم عند قوله تعالى : { وأمه صدّيقةٌ } في سورة العقود ( 75 ) ، وغلب استعمال وصف الصدّيق استعمال اللقب الجامع لمعاني الكمال واستقامة السلوك في طاعة الله تعالى ، لأن تلك المعاني لا تجتمع إلا لمن قوي صدقه في الوفاء بعهد الدين .
وأحسنُ ما رأيت في هذا المعنى كلمة الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن قال : « الصديقون هم دُوَيْن الأنبياء » . وهذا ما يشهد به استعمال القرآن في آيات كثيرة مثل قوله : { فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين } [ سورة النساء : 69 ] الآية ، وقوله : { وأمه صدّيقة } [ سورة المائدة : 75 ] . ومنه ما لَقّب النبيءُ أبا بكر بالصدّيق في قوله في حديث رجف جبل أحُد أُسْكُنْ أُحُد فإنما عليك نبيء وصدّيق وشهيدان . من أجل ذلك أجمع أصحاب رسول الله ومنهم علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه على أن أبا بكر رضي الله عنه أفضل الأمة بعد النبي . وقد جَمع الله هذا الوصف مع صفة النبوءة في قوله : { واذكر في الكتاب إدريس إنه كان صدّيقاً نبياً } في سورة مريم ( 56 ) .
وقد يطلق الصدّيق على أصل وصفه ، كما في قوله تعالى : { والذين آمنوا بالله ورُسله أولئك هم الصدّيقون } [ سورة الحديد : 19 ] على أحد تأويلين فيها .
فهذا الذي استفتَى يوسف عليه السّلام في رؤيا الملِك وَصَف في كلامه يوسف عليه السّلام بمعنى يدل عليه وصف الصدّيق في اللسان العربي ، وإنما وصفه به عن خبرة وتجربة اكتسبها من مخالطة يوسف عليه السّلام في السجن .
فضمّ ما ذكرناه هنا إلى ما تقدم عند قوله تعالى : { وأمه صدّيقةٌ } في سورة العقود ( 75 ) ، وإلى قوله : { مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين } في سورة النساء ( 69 ) .
وإعادة العِبارات المحكية عن الملك بعينها إشارة إلى أنه بلّغ السؤال كما تلقاه ، وذلك تمام أمانة الناقل .
و { الناس } تقدم في قوله : { ومن الناس من يقول آمنا بالله } في سورة البقرة ( 8 ) .
والمراد ب { الناس } بعضهم ، كقوله تعالى : { الذينَ قال لهم النّاس إن النّاس قد جمعوا لكم } [ سورة آل عمران : 173 ] . والناس هنا هم الملك وأهل مجلسه ، لأن تأويل تلك الرؤيا يهمهم جميعاً ليعلم الملك تأويل رؤياه ويعلم أهل مجلسه أن ما عجزوا عن تأويله قد علمه من هو أعلم منهم . وهذا وجه قوله : { لعلهم يعلمون } مع حذف معمول { يعلمون } لأن كل أحد يعلم ما يفيده علمه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فلما أتى يوسف، قال له الساقي، {يوسف أيها الصديق}، يعني: أيها الصادق فيما عبرت لي ولصاحبي، {أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات}، قال: أما البقرات السبع السمان، والسنبلات الخضر، فهن سبع سنين مخصبات، وأما البقرات العجاف السبع، والسنبلات السبع الأخر اليابسات، فهن المجدبات، ثم قال الساقي: {لعلي أرجع إلى الناس}، يعني: أهل مصر، {لعلهم}، يعني: لكي، {يعلمون}، تعبيرها، يعني: تعبير هذه الرؤيا.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال الذي نجا من القتل من صاحبي السجن اللذين استعبرا يوسف الرؤيا "وادّكَرَ "يقول: وتذكر ما كان نسي من أمر يوسف، وذكر حاجته للملِك التي كان سأله عند تعبيره رؤياه أن يذكرها له بقوله: "اذْكُرنِي عِنْدَ رَبّكَ"، "بَعدَ أُمّةٍ" يعني بعد حين...
وهذا التأويل على قراءة من قرأ: بَعْدَ أُمّةٍ بضمّ الألف وتشديد الميم، وهي قراءة القرّاء في أمصار الإسلام.
وقد رُوى عن جماعة من المتقدّمين أنهم قرأوا ذلك: «بَعْدَ أُمَةٍ» بفتح الألف وتخفيف الميم وفتحها بمعنى: بعد نسيان. وذكر بضهم أن العرب تقول من ذلك: أَمِهَ الرّجلُ يأمَهُ أمَها: إذا نسي...
وقد ذكر فيها قراءة ثالثة... قرأ مجاهد: «وَادّكَرَ بَعْدَ أُمْه» مجزومة الميم مخففة.
وكأن قارئ ذلك كذلك أراد به المصدر من قولهم: أمِهَ يأْمَهُ أمْها، وتأويل هذه القراءة، نظير تأويل من فتح الألف والميم.
وقوله: "أنا أُنَبّئُكُمْ بتَأْوِيلِهِ" يقول: أنا أخبركم بتأويله. "فَأرْسِلُونَ" يقول: فأطلقوني أمضي لآتيكم بتأويله من عند العالِم به. وفي الكلام محذوف قد ترك ذكره استغناء بما ظهر عما ترك وذلك: فأرسلوه فأتى يوسف، فقال له: يا يوسف يا أيها الصديق... إن الملك قد رأى كذا وكذا، فقصّ عليه الرؤيا، فقال فيها يوسف ما ذكر الله تعالى لنا في الكتاب فجاءهم مثْلَ فَلَق الصبح تأويلها...
وقيل: إن الذي نجا منهما إنما قال: أرسلوني لأن السجن لم يكن في المدينة... قوله: "أفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُن سَبُعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يابِساتٍ" فإن معناه: أفتنا في سبع بقرات سِمان رُئِينَ في المنام يأكلهن سبع منها عجاف، وفي سبع سنبلات خضر رئين أيضا، وسبع أخر منهنّ يابسات. فأما السمان من البقر: فإنها السنون المخصبة... وأما السبع العِجاف: فسنون مجدبة لا تنبت شيئا...
قوله: "وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وأُخَرَ يابساتٍ" أما الخضر: فهنّ السنون المخاصيب، وأما اليابسات: فهنّ الجُدُوب المحول. والعجاف: جمع عجف، وهي المهازيل.
وقوله: "لَعَلّي أرْجِعُ إلى النّاسِ لَعلّهُمْ يَعْلَمُونَ" يقول: كي أرجع إلى الناس فأخبرهم، "لَعَلّهُمْ يَعْلَمُونَ" يقول: ليعلموا تأويل ما سألتك عنه من الرؤيا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فلما أتاه قال له: (يوسف أيها الصديق) قيل: الصديق هو كثير الصدق كما يقال: شريب وفسيق وسكير إذا كثر ذلك منه. والصديق الذي لم يؤخذ عليه كذب قط، أو سماه صديقا لما عرف أنه رسول الله، وهو ما قال في إبراهيم: (إنه كان صديقا نبيا) [مريم: 41و56]. أو يقول: (أنا أنبئكم بتأويله) أي أنا أتعلم منه، فأنبئكم بتأويله.
(أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ) فأفتاها له، وعبرها عليه، وهو (قال تزرعون سبع سنين دأبا...) وقوله: (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) [الآية: 48] هذا تعبير رؤيا الملك الذي سأله.
(لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون) هذا يحتمل وجوها:
الأول: يعلمون أن هذه الرؤيا حق، ولها حقيقة، ليس كما قال أولئك: (أضغاث أحلام).
والثاني: يعلمون فضلك على غيرك من الناس.
والثالث: يعلمون أنك تصلح لحاجتهم التي في حال يقظتهم، فيرفعونها إليك، كما صلحت لما كان لهم في حال نومهم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{لعلهم يعلمون} لأنه طمع أن يعلموا وأشفق أن لا يعلموا، فلذلك قال: {لعلهم يعلمون} يعني تأويلها. ولم يكن ذلك منه شكاً في علم يوسف؛ لأنه قد وقر في نفسه علمه وصدقه، ولكن تخوف أحد أمرين؛ إما أن تكون الرؤيا كاذبةً، وإما ألاّ يصدقوا تأويلها لكراهتهم له فيتأخر الأمر إلى وقت العيان...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
الصديق: الكثير التصديق بالحق للأدلة عليه، وكل نبي صديق بهذا المعنى...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
المعنى فأرسلوه إلى يوسف، فأتاه فقال {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} أيها البليغ في الصدق، وإنما قال له ذلك لأنه ذاق أحواله وتعرف صدقه في تأويل رؤياه ورؤيا صاحبه حيث جاء كما أوّل، ولذلك كلمه كلام محترز فقال {لَّعَلّي أَرْجِعُ إِلَى الناس لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} لأنه ليس على يقين من الرجوع، فربما اخترم دونه ولا من علمهم فربما لم يعلموا، أو معنى {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} لعلهم يعلمون فضلك ومكانك من العلم، فيطلبوك ويخلصوك من محنتك...
{يوسف أيها الصديق} ففيه محذوف، والتقدير: فأرسل وأتاه وقال أيها الصديق، والصديق هو البالغ في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه لم يجرب عليه كذبا وقيل: لأنه صدق في تعبير رؤياه وهذا يدل على أن من أراد أن يتعلم من رجل شيئا فإنه يجب عليه أن يعظمه، وأن يخاطبه بالألفاظ المشعرة بالإجلال، ثم إنه أعاد السؤال بعين اللفظ الذي ذكره الملك ونعم ما فعل، فإن تعبير الرؤيا قد يختلف بسبب اختلاف اللفظ كما هو مذكور في ذلك العلم.
{لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون} فالمراد لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لعلهم يعلمون فضلك وعلمك، وإنما قال لعلي أرجع إلى الناس بفتواك لأنه رأى عجز سائر المعبرين عن جواب هذه المسألة فخاف أن يعجز هو أيضا عنها، فلهذا السبب قال: {لعلي أرجع إلى الناس}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فأتاه فقال الساقي المرسل بعد وصوله إليه منادياً له بنداء القرب تحبباً إليه: {يوسف} وزاد في التحبب بقوله: {أيها الصديق} أي البليغ في الصدق والتصديق لما يحق تصديقه بما جربناه منه ورأيناه لائحاً عليه {أفتنا} أي اذكر لنا الحكم {في سبع} وميز العدد بجمع السلامة الذي هو للقلة -كما مضى لما مضى- فقال: {بقرات سمان} أي رآهن الملك {يأكلهن سبع} أي من البقر {عجاف} أي مهازيل جداً {و} في {سبع سنبلات} جمع سنبلة، وهي مجمع الحب من الزرع {خضر و} في سبع {أخر} أي من السنابل {يابسات} وساق جواب السؤال سياق الترجي إما جرياً على عوائد العقلاء في عدم البتّ في الأمور المستقبلة، وإما لأنه ندم بعد إرساله خوفاً من أن يكون التأويل شيئاً لا يواجه به الملك، فعزم على الهرب -على هذا التقدير، وإما استعجالاً ليوسف عليه الصلاة والسلام بالإفتاء ليسرع في الرجوع، فإن الناس في غاية التلفت إليه، فقال: {لعلي أرجع إلى الناس} قبل مانع يمنعني. ولما كان تصديقهم ليوسف عليه الصلاة والسلام وعلمهم بعد ذلك بفضله وعملهم بما أمرهم به مظنوناً، قال: {لعلهم يعلمون} أي ليكونوا على رجاء من أن يعلموا فضلك أو ما يدل ذلك عليه من خير أو شر فيعملوا لكل حال ما يمكنهم عمله...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{يوسف أيها الصديق} أي قال: فأرسلوني إليه، فأرسلوه إليه فجاءه فاستفتاه فيما عجز عنه الملأ من تأويل رؤيا الملك، مناديا له باسمه وما ثبت عنده من لقبه [الصديق]، وهو الذي بلغ غاية الكمال بالصدق في الأقوال والأفعال وتأويل الأحاديث وتعبير الأحلام، شارحا له رؤيا الملك بنصها – وهو بسط في محله بعد إيجاز في محله- قائلا {أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات} وعلل هذا الاستفتاء بما يرجو أن يحقق ليوسف أمله بالخروج من السجن وانتفاع الملك وملئه بعلمه فقال {لعلي أرجع إلى الناس} أولي الأمر وأهل الحل والعقد، بما تلقيه إلي من التأويل والرأي {لعلهم يعلمون} مكانتك من العلم فينتفعون به، أو يعلمون ما جهلوا من تأويل رؤيا الملك وما يجب أن يعملوا بعد العلم به، فلعل الأولى تعليل لرجوعه إليهم بإفتائه، ولعل الثانية تعليل لما يرجوه من علمهم بها، والرجاء توقع خير بوقوع أسبابه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الخطاب بالنداء مؤذن بقول محذوف في الكلام، وأنه من قول الذي نجا وادكر بعد أمة. وحُذف من الكلام ذكر إرساله ومشيه ووصوله، إذ لا غرض فيه من القصة. وهذا من بديع الإيجاز. و {الصدّيق} أصله صفةُ مبالغة مشتقة من الصّدْق، كما تقدم عند قوله تعالى: {وأمه صدّيقةٌ} في سورة العقود (75)، وغلب استعمال وصف الصدّيق استعمال اللقب الجامع لمعاني الكمال واستقامة السلوك في طاعة الله تعالى، لأن تلك المعاني لا تجتمع إلا لمن قوي صدقه في الوفاء بعهد الدين...فهذا الذي استفتَى يوسف عليه السّلام في رؤيا الملِك وَصَف في كلامه يوسف عليه السّلام بمعنى يدل عليه وصف الصدّيق في اللسان العربي، وإنما وصفه به عن خبرة وتجربة اكتسبها من مخالطة يوسف عليه السّلام في السجن... وإعادة العِبارات المحكية عن الملك بعينها إشارة إلى أنه بلّغ السؤال كما تلقاه، وذلك تمام أمانة الناقل. و {الناس} تقدم في قوله: {ومن الناس من يقول آمنا بالله} في سورة البقرة (8). والمراد ب {الناس} بعضهم، كقوله تعالى: {الذينَ قال لهم النّاس إن النّاس قد جمعوا لكم} [سورة آل عمران: 173]. والناس هنا هم الملك وأهل مجلسه، لأن تأويل تلك الرؤيا يهمهم جميعاً ليعلم الملك تأويل رؤياه ويعلم أهل مجلسه أن ما عجزوا عن تأويله قد علمه من هو أعلم منهم. وهذا وجه قوله: {لعلهم يعلمون} مع حذف معمول {يعلمون} لأن كل أحد يعلم ما يفيده علمه...