{ لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ } من خير وشر بالعدل والقسط الذي لا جور فيه بوجه من الوجوه .
{ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } كقوله تعالى : { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ } ويحتمل أن معناه : سريع المحاسبة فيحاسب الخلق في ساعة واحدة ، كما يرزقهم ويدبرهم بأنواع التدابير في لحظة واحدة لا يشغله شأن عن شأن وليس ذلك بعسير عليه .
وقوله - سبحانه - { لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ . . } متعلق بمحذوف ، والتقدير : فعل ما فعل - سبحانه - من إثابة المؤمنين ، ومعاقبة المجرمين ، ليجازى كل نفس بما تستحقه من خير أو شر ، دون أن يظلم ربك أحدا .
وقوله { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } أى : إنه - سبحانه - سريع المحاسبة لعباده ، لأنه لا يشغله شأن عن شأن ، بل جميع الخلق بالنسبة لقدرته كالنفس الواحدة .
قال - تعالى - { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ . . . }
وقوله : { ليجزي } أي لكي يجزي ، واللام متعلقة بفعل مضمر ، تقديره : فعل هذا ، وأنفذ هذا العقاب على المجرمين ليكون في ذلك جزاء المسيء على إساءته . وجاء من لفظة الكسب بما يعم المسيء والمحسن ، لينبه على أن المحسن أيضاً يجازى بإحسانه خيراً .
وقوله : { سريع الحساب } أي فاصله بين خلقه بالإحاطة التي له بدقيق أمرهم وجليلها . لا إله غيره ، وقيل لعلي بن أبي طالب : كيف يحاسب الله العباد في وقت واحد مع كثرتهم ؟ قال : كما يرزقهم في وقت واحد .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ليجزي}، أي ليجزئهم {الله}، فيها تقديم، يقول: وبرزوا من قبورهم، لكي يجزى الله {كل نفس ما كسبت}، يقول: كل نفس، بر وفاجر ما كسبت، يعني ما عملت من خير أو شر.
{إن الله سريع الحساب}، يقول: كأنه قد جاء الحساب يخوفهم، فإذا أخذ الله عز وجل في حسابهم، فرغ من حساب الخلائق على مقدار نصف يوم من أيام الدنيا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"لِيَجْزِيَ اللّهُ كُلّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ" يقول: فعل الله ذلك بهم جزاء لهم بما كسبوا من الآثام في الدنيا، كيما يثيب كلّ نفس بما كسبت من خير وشرّ، فيَجْزِي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
"إنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ" يقول: إن الله عالم بعمل كلّ عامل، فلا يحتاج في إحصاء أعمالهم إلى عقد كفّ ولا معاناة، وهو سريع حسابه لأعمالهم، قد أحاط بها علما، لا يعزب عنه منها شيء، وهو مجازيهم على جميع ذلك صغيره وكبيره.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى بأنه إنما فعل ما تقدم ذكره "ليجزي الله كل نفس "الذي كسبت؛ إن كسبت خيرا أتاها الله بالنعيم الأبدي في الجنة، وإن كفرت وجحدت وكسبت شرا عاقبها بنار جهنم مخلدة فيها
"إن الله سريع الحساب" أي سريع المجازاة. وقيل معنى "سريع الحساب" لا يشغله محاسبة بعضهم عن محاسبة آخرين. والكسب: فعل ما يجلب به النفع للنفس أو يدفع به الضرر عنها...
{إن الله سريع الحساب} والمراد أنه تعالى لا يظلمهم ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقونه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ليجزي الله} أي الذي له الكمال كله... ولما عظم الأمر بإسناد الجزاء إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الكمال، اقتضى ذلك أن يكون نفس الكسب هو الجزاء، لأن ذلك أبدع وأدق في الصنع وأبرع بأن يصور بما يحق من الصور المليحة عند إرادة الثواب، والقبيحة عند إرادة العقاب، فلذلك أسقط الباء -التي ستذكر في "حم المؤمن "وقال: {ما كسبت} والجزاء: مقابلة العمل بما يقتضيه من خير أو شر؛ والكسب: فعل ما يستجلب به نفع أو يستدفع به ضر، ومن جزاء المؤمن عقوبة من عاداه في الله. ولما كان حساب كل نفس جديراً بأن يستعظم، قال: {إن الله} أي الذي له الإحاطة المطلقة {سريع الحساب} أي لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى ولا شأن عن شأن...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
ليجزِيَ {كُلُّ نَفْسٍ} مجرمةٍ {ما كَسَبَتْ} من أنواع الكفرِ والمعاصي جزاءً موافقاً لعملها، وفيه إيذانٌ بأن جزاءَهم مناسبٌ لأعمالهم...
{إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب}... سريعُ المجيء يأتي عن قريب، أو سريعُ الانتقام كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} [الرعد: 41]...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد كسبوا المكر والظلم فجزاؤهم القهر والذل. إن الله سريع الحساب. فالسرعة في الحساب هنا تناسب المكر والتدبير الذي كانوا يحسبونه يحميهم ويخفيهم، ويعوق انتصار أحد عليهم. فها هو أولاء يجزون ما كسبوا ذلا وألما وسرعة حساب!...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا البيان من قوله تعالى: {فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله} إلى بيان ذلك العذاب الذي تعم فيه النيران أجسامهم، إنما هو: أولا: لبيان العدالة الإلهية. وثانيا: ليبلغوا بالفعل وجزائه، والخير والشر، وما يجب عليهم. وثالثا: للإنذار لكي يعلم أهل الشر مآلهم. ورابعا: ليعلموا أن الله هو الواحد القهار، وأن لا شيء له صفة الألوهية إلا الله تعالى. وخامسا: ليتذكر أهل الألباب المدركين المؤمنين، فهو ذكر لهم وإنذار لغيرهم. أما أولها: فقد ذكره سبحانه بقوله تعالى: {ليجزي الله كل نفس ما كسبت} وعبر بأن الجزاء هو ما كسبوا من عمل، فليس في ظاهر اللفظ أنه جزاء العمل، بل هو العمل ذاته؛ وذلك للإشارة إلى المساواة التامة بين الجزاء والعمل، فكأنه هو هو، وقد أكد الله وقوعه فقال: {إن الله سريع الحساب} فإن السرعة هنا تأكيد للوقوع، وأن المقاربة الزمنية بالنسبة لله تعالى مؤكدة، فهو سبحانه لا تستطال على أفعاله الأزمان. أما الأمر الثاني: وهو التبليغ، فقد عبر سبحانه عنه بقوله: {هذا بلاغ للناس} تبليغ من الله تعالى لكي يكون حسابهم على بينة من أمورهم، كما قال تعالى: {...وإن من أمة إلا خلا فيها نذير (24)} [فاطر]...
الجزاء أمر طبيعي في الوجود، وحتى الذين لا يؤمنون بإله، ويديرون حركة حياتهم بتقنينات من عندهم قد وضعوا لأنفسهم قوانين جزاء تحدد كل جريمة والعقاب المناسب لها. وبطبيعة الحال لا يكون أمرا غريبا أن يضع خالق الكون نظاما للجزاء ثوابا وعقابا، ولم لم يضع الحق سبحانه نظاما للجزاء بالثواب والعقاب؛ لَنالَ كل مُفسِد بُغيته من فساده، ولأحسّ أهل القيم أنهم قد خُدِعوا في هذه الحياة...
ويقال: (كسب السيئة) ولا يقال (اكتسبها) ذلك أن ارتكابه للسيئة صار دُربة سلوكية، ويفرح بارتكابها، ولابد إذن من الجزاء، والجزاء يحتاج حسابا، والحساب يحتاج ميزانا...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إذا كان البعض يستبعدون مثل هذا العقاب كجزاءٍ على جريمة الإنسان، لأنها مهما كبرت، فلن تكون بحجم هذا العذاب، فإننا نثير أمام هذا البعض أن العقاب لا بد من أن يكون منسجماً مع حجم النتائج العملية السلبية في حياة البلاد والعباد، وليس من الضروري أن يكون منسجماً مع حجم الجريمة على مستوى الكمّ، وأيّة جريمةٍ أفظع من جريمة الكفر بالله الذي يبعد الحياة عن الانسجام مع شريعة الله، في أوامره ونواهيه...