{ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ } وهو الكلام الذي لا خير فيه ولا فائدة ، { مُعْرِضُونَ } رغبة عنه ، وتنزيها لأنفسهم ، وترفعا عنه ، وإذا مروا باللغو مروا كراما ، وإذا كانوا معرضين عن اللغو ، فإعراضهم عن المحرم من باب أولى وأحرى ، وإذا ملك العبد لسانه وخزنه -إلا في الخير- كان مالكا لأمره ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين وصاه بوصايا قال : " ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ " قلت : بلى يا رسول الله ، فأخذ بلسان نفسه وقال : " كف عليك هذا " فالمؤمنون من صفاتهم الحميدة ، كف ألسنتهم عن اللغو والمحرمات .
وقوله - سبحانه - : { والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ } بيان لصفة ثانية من صفات هؤلاء المؤمنين .
واللغو : ما لا فائدة فيه من الأقوال والأعمال . فيدخل فيه اللهو والهزل وكل ما يخل بالمروءة وبآداب الإسلام .
أى : أن صفات هؤلاء المؤمنين أنهم ينزهون أنفسهم عن الباطل والساقط من القول أو الفعل ، ويعرضون عن ذلك فى كل أوقاتهم لأنهم لحسن صلتهم بالله - تعالى - اشتغلوا بعظائم الأمور وجليلها : لا بحقيرها وسفسافها ، وهم كما وصفهم الله - سبحانه - فى آية أخرى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً }
( والذين هم عن اللغو معرضون ) . . لغو القول ، ولغو الفعل ، ولغو الاهتمام والشعور . إن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر . . له ما يشغله من ذكر الله ، وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق . وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب ، ويشغل الفكر ، ويحرك الوجدان . . وله ما يشغله من تكاليف العقيدة : تكاليفها في تطهير القلب ، وتزكية النفس وتنقية الضمير . وتكاليفها في السلوك ، ومحاولة الثبات على المرتقى العالي الذي يتطلبه الإيمان . وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وصيانة حياة الجماعة من الفساد والانحراف . وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها وعزتها ، والسهر عليها من كيد الأعداء . . وهي تكاليف لا تنتهي ، ولا يغفل عنها المؤمن ، ولا يعفي نفسه منها ، وهي مفروضة عليه فرض عين أو فرض كفاية . وفيها الكفاية لاستغراق الجهد البشري والعمر البشري . والطاقة البشرية محدودة . وهي إما أن تنفق في هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها ؛ وإما أن تنفق في الهذر واللغو واللهو . والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى انفاقها في البناء والتعمير والإصلاح .
ولا ينفي هذا أن يروح المؤمن عن نفسه في الحين بعد الحين . ولكن هذا شيء آخر غير الهذر واللغو والفراغ . . .
العطف من عطف الصفات لموصوف واحد كقول بعض الشعراء وهو من شواهد النحو :
إلى المَلِكِ القرْم وابنِ الهُمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
وتكرير الصفات تقوية للثناء عليهم .
والقول في تركيب جملة { هم عن اللغو معرضون } كالقول في { هم في صلاتهم خاشعون } [ المؤمنون : 2 ] ، وكذلك تقديم { عن اللغو } على متعلقه .
وإعَادَةُ اسم الموصول دون اكتفاء بعطف صلة على صلة للإشارة إلى أن كل صفة من الصفات موجبة للفلاح فلا يتوهم أنهم لا يفلحون حتى يجمعوا بين مضامين الصلاة كلها ، ولما في الإظهار في مقام الإضمار من زيادة تقرير للخبر في ذهن السامع .
واللغو : الكلام الباطل . وتقدم في قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } في البقرة ( 225 ) ، وقوله : { لا يسمعون فيها لغواً } في سورة مريم ( 62 ) .
والإعراض : الصد أي عدم الإقبال على الشيء ، من العُرض بضم العين وهو الجانب ، لأن من يترك الشيء يوليه جانبه ولا يقبل عليه فيشمل الإعراضُ إعْرَاضَ السمع عن اللغو ، وتقدم عند قوله : { فَأعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ } في سورة النساء ( 63 ) ، وقوله : { وإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ } في سورة الأنعام ( 68 ) ، وأهمه الإعراض عن لغو المشركين عند سماع القرآن { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فِيهِ لعلكم تغلبون } [ فصلت : 26 ] وقال تعالى : { وإذا مَرّوا باللَّغْوِ مَرّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] . ويشمل الإعراض عن اللغو بالألسنة ، أي أن يَلْغُوا في كلامهم .
وعقب ذكر الخشوع بذكر الإعراض عن اللغو لأن الصلاة في الأصْل الدعاء ، وهو من الأقوال الصالحة ، فكان اللغو مما يخطر بالبال عند ذكر الصلاة بجامع الضدية ، فكان الإعراض عن اللغو بمعنَيي الإعراض مما تقتضيه الصلاة والخشوع لأن من اعتاد القول الصالح تجنب القول الباطل ومن اعتاد الخشوع لله تجنب قول الزور ، وفي الحديث « إنّ العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم » .
والإعراض عن جنس اللغو من خُلق الجِدِّ ومن تخلق بالجد في شؤونه كملت نفسه ولم يصدر منه إلاّ الأعمال النافعة ، فالجد في الأمور من خلق الإسلام كما أفصح عن ذلك قول أبي خراش الهذلي بذكر الإسلام :
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل*** سوى العَدل شيئاً فاستراح العواذل
والإعراض عنه يقتضي بالأولى اجتناب قول اللغو ويقتضي تجنب مجالس أهله .
واعلم أن هذا أدب عظيم من آداب المعاملة مع بعض الناس وهم الطبقة غير المحترمة لأن أهل اللغو ليسوا بمرتبة التوقير ، فالإعراض عن لغوهم رَبْءٌ عن التسفل معهم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
والذين هم عن الباطل وما يكرهه الله من خلقه معرضون... عن الحسن:"عَنِ اللّغْوِ مُعْرِضُونَ" قال: عن المعاصي.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
اللغو كأنه اسم كل باطل، واسم كل ما يلغى، ولا يعبأ به. أخبر أنهم يعرضون عن كل باطل وعن كل ما نهوا عنه، ويقبلون على كل طاعة وكل ما أمروا به.
واللغو هو الفعل الذي لا فائدة فيه، وما كان هذا وصفه من القول والفعل فهو محظور.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ما يَشغْلُ عن الله فهو سَهْوٌ، وما ليس لله فهو حَشْوٌ، وما ليس بمسموعٍ من الله أو بمعقولٍ مع الله فهو لَغْوٌ... والتعريجُ على شيءٍ من هذا بُعْدٌ وهَجْرٌ.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
اللغو: ما لا يعنيك من قول أو فعل، كاللعب والهزل وما توجب المروءة إلغاءه واطراحه، يعني أنّ بهم من الجدّ ما يشغلهم عن الهزل. لما وصفهم بالخشوع في الصلاة، أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو، ليجمع لهم الفعل والترك الشاقين على الأنفس اللذين هما قاعدتا بناء التكليف.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {اللغو} سقط القول، وهذا يعم جميع ما لا خير فيه، ويجمع آداب الشرع، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكأن الآية فيها موادعة.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
فالمعنى: شغلهم الجد فيما أمرهم الله به عن اللغو.
كل ما يقتضي الدين إلغاءه كان أولى باسم اللغو، فوجب أن يكون كل حرام لغوا، ثم اللغو قد يكون كفرا لقوله: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه} وقد يكون كذبا لقوله: {لا تسمع فيها لاغية} وقوله: {لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما} ثم إنه سبحانه وتعالى مدحهم بأنهم يعرضون عن هذا اللغو، والإعراض عنه هو بأن لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه، وعلى هذا الوجه قال تعالى: {وإذا مروا باللغو مروا كراما}.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان كل من الصلاة والخشوع صاداً عن اللغو، أتبعه قوله: {والذين هم} بضمائرهم التي تبعها ظواهرهم {عن اللغو} أي ما لا يعنيهم، وهو كل ما يستحق أن يسقط ويلغى {معرضون} أي تاركون عمداً، فصاروا جامعين فعل ما يعني وترك ما لا يعني.
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
ومعنى إعراضهم عنه: تجنبهم له وعدم التفاتهم إليه، وظاهره اتصافهم بصفة الإعراض عن اللغو في كل الأوقات، فيدخل وقت الصلاة في ذلك دخولاً أوّلياً...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
لغو القول، ولغو الفعل، ولغو الاهتمام والشعور. إن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر.. له ما يشغله من ذكر الله، وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق. وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب، ويشغل الفكر، ويحرك الوجدان.. وله ما يشغله من تكاليف العقيدة: تكاليفها في تطهير القلب، وتزكية النفس وتنقية الضمير. وتكاليفها في السلوك، ومحاولة الثبات على المرتقى العالي الذي يتطلبه الإيمان. وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصيانة حياة الجماعة من الفساد والانحراف. وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها وعزتها، والسهر عليها من كيد الأعداء.. وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، ولا يعفي نفسه منها، وهي مفروضة عليه فرض عين أو فرض كفاية. وفيها الكفاية لاستغراق الجهد البشري والعمر البشري. والطاقة البشرية محدودة. وهي إما أن تنفق في هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها؛ وإما أن تنفق في الهذر واللغو واللهو. والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى انفاقها في البناء والتعمير والإصلاح. ولا ينفي هذا أن يروح المؤمن عن نفسه في الحين بعد الحين. ولكن هذا شيء آخر غير الهذر واللغو والفراغ ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
اللغو: الكلام الباطل. وتقدم في قوله تعالى: {لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم} في البقرة (225)، وقوله: {لا يسمعون فيها لغواً} في سورة مريم (62). والإعراض: الصد أي عدم الإقبال على الشيء، من العُرض بضم العين وهو الجانب، لأن من يترك الشيء يوليه جانبه ولا يقبل عليه فيشمل الإعراضُ إعْرَاضَ السمع عن اللغو، وتقدم عند قوله: {فَأعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء (63)، وقوله: {وإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأعْرِضْ عَنْهُمْ} في سورة الأنعام (68)، وأهمه الإعراض عن لغو المشركين عند سماع القرآن {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغَوْا فِيهِ لعلكم تغلبون} [فصلت: 26] وقال تعالى: {وإذا مَرّوا باللَّغْوِ مَرّوا كِراماً} [الفرقان: 72]. ويشمل الإعراض عن اللغو بالألسنة، أي أن يَلْغُوا في كلامهم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
إن سماع اللغو من القول يهون في النفس الأمور الخطيرة، ويجعلها في حال عبث ولهو، ومع الإكثار من سماع اللغو تنماع النفس انمياعا، ولا تقوى على تحمل مشاق التكليفات الشرعية، وما تقتضيه من صبر، وضبط نفس، ولا يكون رجلا نافعا أبدا... ألا فليعتبر الذين يجعلون حياتهم لهوا ولعبا وعبثا...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
وصف كتاب الله العلامة الثانية التي تميز المؤمنين المفلحين فقال: {والذين هم عن اللغو معرضون} إشارة إلى أنهم لا يشغلون أنفسهم بالسفاسف، فليس عندهم من الوقت ما يضيعونه في اللغو والهزل والعبث، بما في ذلك الأقوال الفارغة، والآراء العقيمة، والأعمال الطائشة التي لا جدوى من ورائها ولا نفع، وإنما يكرسون جهودهم وطاقاتهم لتحقيق الأهداف السامية التي أناطها بهم دينهم الحنيف، حتى يكتب لملتهم الظهور والانتشار، ولأمتهم الفوز والانتصار، وللإنسانية جمعاء التقدم والازدهار، ففي تلك الأهداف الكبرى ما يستنفد منهم الطاقات، ويملأ معظم الأوقات، ويجعلهم أهلا لتحقيق المعجزات. وبديهي أن إعراضهم عن اللغو يستلزم تركه أولا، وعدم الرضا به ثانيا، وتفادي مخالطة أهله أو مشاركتهم فيه ثالثا، مصداقا لقوله تعالى في سورة الفرقان: {وإذا مروا باللغو مروا كراما} [الآية: 72]، وقوله تعالى في سورة القصص: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} [الآية: 55]...
اللغو: الكلام الذي لا فائدة منه، ويطلق أيضا على كل فعل لا جدوى منه... و {معرضون} الإعراض في الأصل تجنب الشيء، وهو صورة لحركة إباء النفس لشيء ما. وأهل المعرفة يضعون للغو مقياسا، فيقولون: كل عمل لا تنال عليه ثوابا من الله فهو لغو. لذلك احرص دائما أن تكون حركتك كلها لله حتى تثاب عليها، كصاحبنا الذي دخل عليه رجل وقصده في قضاء أمر من الأمور وهو لا يملك هذا الأمر، لكن أراد أن يستغل فرصة الخير هذه، وأن يكون له ثواب حتى في حركة الامتناع عنه، فرفع يده: اللهم إنه عبد قصد عبدا وأنا آخذ بيده وأقصد ربا، فاجعل تصويب خطئه في قصدي تصويبا لقصدك. يعني: أنا وإن كنت لا أقدر على قضائها إلا أنني أدخل بها على الله من هذه الناحية.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأنهم يتحركون في الحياة من خلال الاعتقاد بأن لكل موقعٍ من مواقعها وظاهرةٍ من ظواهرها، ولكل لحظة من لحظاتها الزمنية هدفاً يتحرك في المعنى الكامن فيها، والسرّ المتمثل في طبيعتها، والفائدة التي تحصل منها.. فليس لديهم مجال للّغو الذي لا يحمل في مضمونه أيّ نفع للإنسان، أو أيّ هدفٍ للحياة، سواء تجسّد ذلك في فراغ الكلمة الروحي أو في تفاهتها المعنويّة، أو في ما تثيره من أجواء خالية من الفائدة بالنسبة للفكر أو الشعور. إن الكلمة تعبير حيّ عن الشخص والواقع والهدف، فإذا اقتربت من اللامعنى أو من اللاهدف، أو من اللاجدية، كانت انحرافاً عن المسؤولية التي هي سرّ حياة الإنسان.. وليس معنى ذلك أن تكون الحياة جدّاً كلها، لا مجال فيها للهوٍ أو لمزاحٍ، ولكنّ معنى ذلك أن يكون هناك هدف، حتى للّهو أو المزاح، كأن تهدف لإعادة النشاط إلى الإنسان أو أن تساعده على التخفف من مشاكله النفسية المعقّدة وما إلى ذلك...