{ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ } التي قد استقرت قبل { عَلَقَةً } أي : دما أحمر ، بعد مضي أربعين يوما من النطفة ، { فخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ } بعد أربعين يوما { مُضْغَةً } أي : قطعة لحم صغيرة ، بقدر ما يمضغ من صغرها .
{ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ } اللينة { عِظَامًا } صلبة ، قد تخللت اللحم ، بحسب حاجة البدن إليها ، { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } أي : جعلنا اللحم ، كسوة للعظام ، كما جعلنا العظام ، عمادا للحم ، وذلك في الأربعين الثالثة ، { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } نفخ فيه الروح ، فانتقل من كونه جمادا ، إلى أن صار حيوانا ، { فَتَبَارَكَ اللَّهُ } أي : تعالى وتعاظم وكثر خيره { أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } { الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون } فخلقه كله حسن ، والإنسان من أحسن مخلوقاته ، بل هو أحسنها على الإطلاق ، كما قال تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } ولهذا كان خواصه أفضل المخلوقات وأكملها .
ثم بين - سبحانه - أطواراً أخرى لخلق الإنسان تدل على كمال قدرته - - تعالى - فقال : { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } أى : ثم صيرنا النطفة البيضاء ، علقة حمراء إذ العلقة عبارة عن الدم الجامد .
{ فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً } أى : جعلنا بقدرتنا هذه العلقة قطعة من اللحم ، تشبه فى صغرها قطعة اللحم التى يمضغها الإنسان فى فمه .
{ فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً } أى : حولنا هذه المضغة من اللحم التى لم تظهر معالمها بعد ، إلى عظم صغير دقيق ، على حب ما اقتضته حكمتنا فى خلقنا .
{ فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً } أى : فكسونا هذه المضغة التى تحولت بقدرتنا إلى عظام دقيقة باللحم ، بحيث صار هذا اللحم ساتراً للعظام ومحيطاً بها .
قال بعض العلماء : " وهنا يقف الإنسان مدهوشاً ، أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة فى تكوين الجنين ، لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيراً ، بعد تقدم علم الأجنة التشريحى " .
وذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم وقد ثبت أن خلايا العظام هى التى تكون أولاً من الجنين ، ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا الهيكل العظمى للجنين . وهى التى يسجلها النص القرآنى فى قوله - تعالى - { فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً } فسبحانه العليم الخبير .
وقوله - تعالى - : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } بيان لما انتهت إليه أطوار خلق الإنسان .
أى : ثم صيرنا هذا الإنسان بشراً سويًّا ، بعد أن كان نطفة ، فعلقة ، فمضغة ، فعظاماً ، فلحماً يكسو هذه العظام ، وهذا كله يدل على كمال قدرة الله - تعالى - وعلى أنه حق ، إذ قدرته - سبحانه - لا يعجزها شىء .
قال صاحب الكشاف : " قوله - تعالى - : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } ، أى : خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها ، حيث جعله حيواناً بعد أن كان جماداً ، وناطقاً وكان أبكم ، وسميعاً وكان أصم وبصيراً وكان أكمه ، وأودع باطنه وظاهره - بل كل عضو من أعضائه بل كل جزء من أجزائه - عجائب فطرته ، وغرائب حكمته ، لا تدرك بوصف الواصف ، ولا تبلغ بشرح الشارح . . . " .
{ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } أى : فكثر خيره - سبحانه - ودام إحسانه وتقدس شأنه ، فهو - عز وجل - أحسن الخالقين على الإطلاق ، فقد أتقن كل شىء خلقه ، وأحكم كل شىء صنعه .
ولفظ " تبارك " فعل ماض لا ينصرف ، والأكثر إسناده إلى غير مؤنث .
وهو مأخوذ من البركة بمعنى الكثرة من كل خير ، أو بمعنى الثبات والدوام وكل شىء دام وثبت فقد برك .
وبتلك القوة الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين التدبير والتقدير . . حتى تجيء مرحلة العظام . . ( فخلقنا المضغة عظاما )فمرحلة كسوة العظام باللحم : ( فكسونا العظام لحما ) . . وهنا يقف الإنسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرا بعد تقدم علم الأجنة التشريحي . ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم . وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولا في الجنين . ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام ، وتمام الهيكل العظمي للجنين . وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني : ( فخلقنا المضغة عظاما ، فكسونا العظام لحما ) . . فسبحان العليم الخبير !
( ثم أنشأناه خلقا آخر ) . . هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة . فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية . ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقا آخر ، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة ، المستعدة للارتقاء . ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان ، مجردا من خصائص الارتقاء والكمال ، التي يمتاز بها جنين الإنسان .
إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد . وهو ينشأ ( خلقا آخر )في آخر أطواره الجنينية ؛ بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص . ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية ، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطورا آليا - كما تقول النظريات المادية - فهما نوعان مختلفان . اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنسانا . واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني ( خلقا آخر ) . إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني ؛ ثم يبقى الحيوان حيوانا في مكانه لا يتعداه . ويتحول الإنسان خلقا آخر قابلا لما هو مهيأ له من الكمال . بواسطة خصائص مميزة ، وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلى من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان .
( فتبارك الله أحسن الخالقين ) . . وليس هناك من يخلق سوى الله . فأحسن هنا ليست للتفضيل ، إنما هي للحسن المطلق في خلق الله .
( فتبارك الله أحسن الخالقين ) . . الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار ، وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف ، حتى تبلغ بالإنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال الإنساني ، على أدق ما يكون النظام !
وإن الناس ليقفون دهشين أمام ما يسمونه " معجزات العلم " حين يصنع الإنسان جهازا يتبع طريقا خاصا في تحركه ، دون تدخل مباشر من الإنسان . . فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولاته ، وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها ، وتحولات كاملة في ماهيتها ? غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون ، مغلقي القلوب ، لأن طول الألفة أنساهم أمرها الخارق العجيب . . وإن مجرد التفكر في أن الإنسان - هذا الكائن المعقد - كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة التي لا تراها العين المجردة ؛ وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عندما ينشأ خلقا آخر . فإذا هي ناطقة بارزة في الطفل مرة أخرى . وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة . هذه الوراثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة . . إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب . . .
و { العلقة } الدم الغريض ، و { المضغة } بضعة اللحم قدر ما يمضغ ، وقرأ الجمهور { عظاماً } في الموضعين ، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر «عظماً » بالإفراد في الموضعين ، وقرأ السلمي وقتادة والأعرج والأعمش بالإفراد أولاً وبالجمع في الثاني ، وقرأ مجاهد وأبو رجاء وإبراهيم بن أَبي بكير بعكس ذلك ، وفي قراءة ابن مسعود ، «ثم جعلنا المضغة عظاماً وعصباً فكسوناه لحماً » ، واختلف الناس في «الخلق الآخر » ، فقال ابن عباس والشعبي وأَبو العالية والضحاك وابن زيد : هو نفخ الروح فيه ، وقال ابن عباس أيضاً : خروجه إلى الدنيا ، وقال قتادة عن فرقة : نبات شعره ، وقال مجاهد : كمال شبابه وقال ابن عباس أيضاً : تصرفه في أمور الدنيا .
قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا التخصيص كله لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجوه من النطق والإدراك وحسن المحاولة هو بها { آخر } ، وأول رتبة من كونه { آخر } هي نفخ الروح فيه ، والطرف الآخر من كونه { آخر } تحصيله المعقولات ، و «تبارك » مطاوع بارك فكأنها بمنزلة تعالى وتقدس من معنى البركة ، وهذه الآية يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله { آخر } قال { فتبارك الله أَحسن الخالقين } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا أنزلت{[8464]} ، ويروى أن قائل ذلك معاذ بن جبل رضي الله عنه{[8465]} ، ويروى أَن قائل ذلك هو عبد الله بن أَبي سرح وبهذا السبب ارتد ، وقال أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد وفيه نزلت :
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو قال أوحي إليَّ ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله }{[8466]} [ الأنعام : 93 ] ، الآية وقوله { أحسن الخالقين } معناه الصانعين يقال لمن صنع شيئاً خلقه ومنه قول الشاعر : [ الكامل ]
ولأنت تفري ما خلقت . . . وبعض القوم يخلق ثم لا يفري{[8467]}
وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس ، فقال ابن جريج : إنما قال { الخالقين } لأَنه تعالى قد أذن لعيسى في أَن يخلق ، واضطرب بعضهم في ذلك{[8468]} ، ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع وإنما هي منفية الاختراع والإيجاد من العدم ، ومن هذه الآية قول ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا الله أعلم ، فقال عمر : ما تقول يا ابن عباس ، فقال : يا أمير المؤمنين إن الله خلق السماوات سبعاً ، والأرضين سبعاً ، وخلق ابن آدم من سبع ، وجعل رزقه في سبع ، فأراها في ليلة سبع وعشرين ، فقال : آعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى به هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه وهذا الحديث بطوله في مسند ابن أَبي شيبة فأراد ابن عباس بقوله خلق ابن آدم من سبع هذه الآية ، وبقوله جعل رزقه في سبع قوله { فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غلباً وفاكهة وأبّا }{[8469]} [ عبس : 27 ] الآية السبع منها لابن آدم والأب للأنعام والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء هذا قول ، وقيل القضب البقول لأنها تقضب فهي رزق ابن آدم ، وقيل : القضب والأب للأنعام والستة الباقية لابن آدم والسابعة هي الأنعام إذ هي من أعظم رزق ابن آدم .
حرف ( ثم ) في قوله : { ثم خلقنا النطفة علقة } للترتيب الرتْبي إذ كان خلق النطفة علقة أعجبَ من خلق النطفة إذ قد صُير الماء السائل دَماً جامداً فتغير بالكثافة وتبدل اللون من عواملَ أودعها الله في الرحم .
ومن إعجاز القرآن العلمي تسمية هذا الكائن باسم العلَقة فإنه وضْع بديع لهذا الاسم إذ قد ثبت في علم التشريح أن هذا الجزء الذي استحالت إليه النطفة هو كائن له قوة امتصاص القوة من دم الأم بسبب التصاقه بعروق في الرحم تدفع إليه قوة الدم ، والعلقة : قطعة من دم عاقد .
والمضغة : القطعة الصغيرة من اللحم مقدار اللقمة التي تمضغ . وقد تقدم في أول سورة الحج كيفية تخلق الجنين .
وعطف جَعل العَلقةِ مُضغةً بالفاء لأن الانتقال من العلقة إلى المضغة يشبه تعقيب شيء عن شيء إذ اللحم والدم الجامد متقاربان فتطورهما قريب وإن كان مكث كل طورٍ مدة طويلة .
وخلق المضغة عظاماً هو تكوين العظام في داخل تلك المضغة وذلك ابتداء تكوين الهيكل الإنساني من عظم ولحم ، وقد دل عليه قوله : { فكسونا العظام لحماً } بفاء التفريع على الوجه الذي قرر في عطف { فخلقنا المضغة } بالفاء .
فمعنى { فَكَسَوْنا } أن اللحم كانَ كالكسوة للعظام ولا يقتضي ذلك أن العظام بقيت حيناً غير مكسوة ، وفي الحديث الصحيح : « إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثلَ ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملَك فَيَنْفُخُ فيه الروحَ » الحديث ، فإذا نُفخ فيه الروح فقد تهيأ للحياة والنماء وذلك هو المشار إليه بقوله تعالى : { ثم أنشأناه خلقاً آخر } لأن الخلق المذكور قبله كان دون حياة ثم نشأ فيه خَلق الحياة وهي حالة أخرى طرأت عليه عبر عنها بالإنشاء .
وللإشارة إلى التفاوت الرتبي بين الخلقين عطف هذا الإنشاء ب ( ثم ) الدالة على أصل الترتيب في عطف الجمل ب ( ثم ) .
وهذه الأطوار التي تعرضت لها الآية سبعة أطوار فإذا تمت فقد صار المتخلِّق حياً ، وفي « شرح الموطأ » : « تناجى رجلان في مجلس عمر بن الخطاب وعليٌّ حاضر فقال لهما عمر : ما هذه المناجاة ؟ فقال أحدهما : إن اليهود يزعمون أن العزل هو الموءودة الصغرى ، فقال علي : لا تكون موءودة حتَّى تمرّ عليها التارات السبع { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } الآية ، فقال عُمرُ لعليّ : صدقت أطال الله بقاءك » . فقيل : إن عمر أول من دعا بكلمة « أطال الله بقاءك » .
وقرأ الجمهور { فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام } بصيغة جمع { العظام } فيهما . وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم { عظماً . . والعَظْمَ } بصيغة الإفراد .
وفُرع على حكاية هذا الخلق العجيب إنشاء الثناء على الله تعالى بأنه { أحسن الخالقين } أي أحسن المنشئين إنشاءً ، لأنه أنشأ ما لا يستطيع غيره إنشاءه .
ولما كانت دلالة خلق الإنسان على عظم القدرة أسبق إلى اعتبار المعتبر كان الثناء المعقب به ثناء على بديع قدرة الخالق مشتقاً من البركة وهي الزيادة .
وصيغة تفاعَل صيغة مطاوعة في الأصل ، وأصل المطاوعة قبول أثر الفعل ، وتستعمل في لازم ذلك وهو التلبس بمعنى الفعل تلبساً مكيناً لأن شأن المطاوعة أن تكون بعد معالجة الفعل فتقتضي ارتساخ معنى الفعل في المفعول القابل له حتى يصير ذلك المفعول فاعلاً فيقال : كسرته فتكسر ، فلذلك كان تفاعَل إذا جاء بمعنى فَعَل دالاًّ على المبالغة كما صرح به الرضيّ في « شرح الشافية » ، ولذلك تتفق صيغ المطاوعة وصيغ التكلف غالباً في نحو : تثنَّى . وتكبَّرَ ، وتشامخ ، وتقاعس . فمعنى { تبارك الله } أنه موصوف بالعظمة في الخير ، أي عظمةِ ما يقدره من خير للناس وصلاح لهم .
وبهذا الاعتبار تكون الجملة تذييلاً لأن { تبارك } لما حذف متعلقه كان عاماً فيشمل عظمة الخير في الخلق وفي غيره . وكذلك حذف متعلق { الخالقين } يعم خلق الإنسان وخلق غيره كالجبال والسماوات .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ثم خلقنا النطفة علقة}... تحول الماء فصار دما {فخلقنا العلقة مضغة} يعني: فتحول الدم فصار لحما مثل المضغة، {فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه}..: خلقناه، {خلقا آخر} يعني: الروح ينفخ فيه بعد خلقه...
{فتبارك الله أحسن الخالقين}...: هو أحسن المصورين، يعني: من الذين خلقوا التماثيل وغيرها التي لا يتحرك منها شيء.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"ثُمّ خَلَقْنا النطْفَةَ عَلَقَةً" يقول: ثم صيرنا النطفة التي جعلناها في قرار مكين علقة، وهي القطعة من الدم.
"فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً "يقول: فَجعلنا ذلك الدم مضغة، وهي القطعة من اللحم. وقوله: "فخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظاما" يقول: فجعلنا تلك المضغة اللحم عظاما...
وقوله: "فَكَسَوْنا العِظامَ لَحْما" يقول: فألبسنا العظام لحما...
وقوله: "ثُمّ أنْشأْناهُ خَلْقا آخَرَ" يقول: ثم أنشأنا هذا الإنسان خلقا آخر. وهذه الهاء التي في: أنْشَأْناهُ عائدة على «الإنسان» في قوله: "وَلَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ" قد يجوز أن تكون من ذكر العظم والنطفة والمضغة، جعل ذلك كله كالشيء الواحد، فقيل: ثم أنشأنا ذلك خلقا آخر.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ثُمّ أنْشَأْناهُ خَلْقا آخَرَ"؛
فقال بعضهم: إنشاؤه إياه خلقا آخر: نفخه الروح فيه، فيصير حينئذٍ إنسانا، وكان قبل ذلك صورة...
وقال آخرون: إنشاؤه خلقا آخر: تصريفه إياه في الأحوال بعد الولادة؛ في الطفولة، والكهولة، والاغتذاء، ونبات الشعر، والسنّ، ونحو ذلك من أحوال الأحياء في الدنيا...
وقال آخرون: بل عَنَى بإنشائه خلقا آخر: سوّى شبابه...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بذلك نفخ الروح فيه، وذلك أنه بنفخ الروح فيه يتحوّل خلقا آخر إنسانا، وكان قبل ذلك بالأحوال التي وصفه الله أنه كان بها، من نطفة وعلقة ومضغة وعظم، وبنفخ الروح فيه يتحوّل عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية، كما تحوّل أبوه آدم بنفخ الروح في الطينة التي خلق منها إنسانا وخلقا آخر غير الطين الذي خلق منه.
وقوله: "فَتَبارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ"... معناه: فتبارك الله أحسن الصانعين...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يخبر أنه قادر بذاته، فمن قدر على هذا يقدر على إنشائهم من الأصل من لاشيء، ويقدر على إحيائهم بعد ما صاروا ترابا. والأعجوبة في خلق الإنسان مما ذكر من النطفة والعلقة والمضغة ليس بدون خلقه إياهم من التراب من الوجه الذي ذكرنا...
فيه دلالة تدبيره لخروج الخلق جميعا وتوالدهم من أول أمرهم إلى آخر ما ينتهون على جري واحد وسنن واحد على غير تغيير في التوالد والتناسل الذي جعل فيهم. وكذلك جميع ما يخرج من الأرض النبات ومن الأشجار الأوراق في كل عام وفي كل سنة، يخرج على جرية واحدة وسنن واحد، لا يتغير، ولا يتفاوت وقت خروجه. بل على تقدير واحد وميزان واحد. دل أنه على تدبير ذات خرج، لا على الجزاف. وبالله الحول والقوة...
في ما ذكر من تحويله إياهم وتقليبهم من حال إلى حال دلالة أنه لم ينشئهم لأنفسهم، وأن من أنشأ من العالم سواهم إنما أنشأه لهم، وأنشأ أنفسهم لعاقبة، لأنه لو كان أنشأ إياهم لأنفسهم وللفناء الذي ذكر في قوله {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} (المؤمنون: 15) لكان يتركهم على حال واحدة، ولا يحولهم من حال إلى حال، فإذا حولهم وقلبهم من حال إلى حال دل أنه لا للموت الذي ذكر خلقهم خاصة بقوله: {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} ولكن لعاقبة تُقصد، وهي البقاء الدائم الذي لا فناء فيه، وهو ما ذكر: {ثم إنكم يوم القيامة تبعثون} (المؤمنون: 16).
... {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} أي استحق التعظيم والثناء بأنّه لم يزل ولا يزال وأصله من البروك وهو الثبوت. {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي المصوّرين والمقدّرين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{خَلْقاً ءاخَرَ} أي خلقاً مبايناً للخلق الأوّل مباينة ما أبعدها، حيث جعله حيواناً وكان جماداً، وناطقاً وكان أبكم، وسميعاً وكان أصمّ، وبصيراً وكان أكمه، وأودع باطنه وظاهره بل كل عضو من أعضائه وكل جزء من أجزائه عجائب فطرة وغرائب حكمة لا تدرك بوصف الواصف ولا تبلغ بشرح الشارح...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
اختلف الناس في «الخلق الآخر»، فقال ابن عباس والشعبي وأَبو العالية والضحاك وابن زيد: هو نفخ الروح فيه، وقال ابن عباس أيضاً: خروجه إلى الدنيا، وقال قتادة عن فرقة: نبات شعره، وقال مجاهد: كمال شبابه وقال ابن عباس أيضاً: تصرفه في أمور الدنيا.
وهذا التخصيص كله لا وجه له وإنما هو عام في هذا وغيره من وجوه من النطق والإدراك وحسن المحاولة هو بها {آخر}، وأول رتبة من كونه {آخر} هي نفخ الروح فيه، والطرف الآخر من كونه {آخر} تحصيله المعقولات، و «تبارك» مطاوع بارك فكأنها بمنزلة تعالى وتقدس من معنى البركة...
المرتبة الثالثة: {ثم خلقنا النطفة علقة} أي حولنا النطفة عن صفاتها إلى صفات العلقة وهي الدم الجامد.
المرتبة الرابعة: {فخلقنا العلقة مضغة} أي جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم كأنها مقدار ما يمضغ كالغرفة وهي مقدار ما يغترف، وسمى التحويل خلقا لأنه سبحانه يفني بعض أعراضها ويخلق أعراضا غيرها فسمى خلق الأعراض خلقا لها وكأنه سبحانه وتعالى يخلق فيها أجزاء زائدة.
المرتبة الخامسة: {فخلقنا المضغة عظاما} أي صيرناها كذلك وقرأ ابن عامر عظما والمراد منه الجمع كقوله: {والملك صفا صفا}.
المرتبة السادسة: {فكسونا العظام لحما} وذلك لأن اللحم يستر العظم فجعله كالكسوة لها.
المرتبة السابعة: قوله تعالى: {ثم أنشأناه خلقا آخر} أي خلقا مباينا للخلق الأول...
{فتبارك الله} أي فتعالى الله فإن البركة يرجع معناها إلى الامتداد والزيادة، وكل ما زاد على الشيء فقد علاه، ويجوز أن يكون المعنى، والبركات والخيرات كلها من الله تعالى، وقيل أصله من البروك وهو الثبات، فكأنه قال والبقاء والدوام والبركات كلها منه فهو المستحق للتعظيم والثناء...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{فَتَبَارَكَ الله} فتعالى شأنُه في علمه الشَّاملِ وقُدرتهِ الباهرة. والالتفاتُ إلى الاسم الجليل لتربيةِ المهابة وإدخالِ الرَّوعة والإشعارِ بأنَّ ما ذُكر من الأفاعيلِ العجيبة من أحكام الأُلوهيَّةِ وللإيذانِ بأنَّ حقَّ كلِّ مَن سمع ما فُصِّل من آثار قُدرتهِ عزَّ وعلا أو لاحظَه أنْ يُسارعَ إلى التَّكلُّمِ به إجلالاً وإعظاماً لشؤونهِ تعالى.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا يقف الإنسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرا بعد تقدم علم الأجنة التشريحي. ذلك أن خلايا العظام غير خلايا اللحم. وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولا في الجنين. ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور خلايا العظام، وتمام الهيكل العظمي للجنين. وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني: (فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما).. فسبحان العليم الخبير!.
(ثم أنشأناه خلقا آخر).. هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة. فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية. ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقا آخر، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة، المستعدة للارتقاء. ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان، مجردا من خصائص الارتقاء والكمال، التي يمتاز بها جنين الإنسان. إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد...
إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني؛ ثم يبقى الحيوان حيوانا في مكانه لا يتعداه. ويتحول الإنسان خلقا آخر قابلا لما هو مهيأ له من الكمال. بواسطة خصائص مميزة، وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلى من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان.. (فتبارك الله أحسن الخالقين).. وليس هناك من يخلق سوى الله. فأحسن هنا ليست للتفضيل، إنما هي للحسن المطلق في خلق الله.
(فتبارك الله أحسن الخالقين).. الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار، وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف، حتى تبلغ بالإنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال الإنساني، على أدق ما يكون النظام!
وإن الناس ليقفون دهشين أمام ما يسمونه "معجزات العلم "حين يصنع الإنسان جهازا يتبع طريقا خاصا في تحركه، دون تدخل مباشر من الإنسان.. فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولاته، وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها، وتحولات كاملة في ماهيتها؟ غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون، مغلقي القلوب، لأن طول الألفة أنساهم أمرها الخارق العجيب.. وإن مجرد التفكر في أن الإنسان -هذا الكائن المعقد- كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة التي لا تراها العين المجردة؛ وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عندما ينشأ خلقا آخر. فإذا هي ناطقة بارزة في الطفل مرة أخرى. وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة. هذه الوراثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة.. إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ تشير الآية الثّالثة إلى المراحل المدهشة والمثيرة لتدرّج النطفة في مراحلها المختلفة، واتّخاذها شكلا معيّناً في كلّ منها في ذلك القرار المكين، حيث تقول: إنّنا جعلنا من تلك النطفة على شكل قطعة دم متخثّر (علقة) ثمّ بدّلناها على شكل قطعة لحم ممضوغ (مضغة)، ثمّ جعلنا من هذه المضغة عظاماً، وأخيراً ألبسنا هذه العظام لحماً: (ثمّ خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً). هذه المراحل الأربعة المختلفة مضافاً إلى مرحلة النطفة تشكّل خمس مراحل، كلّ منها عالم عجيب بذاته مليء بالعجائب بحثت بدقّة في علم الجنين، وأُلّفت بصددها كتب وبحوث عميقة في عصرنا، إلاّ أنّ القرآن تكلّم عن هذه المراحل المختلفة لجنين الإنسان، وبيّن عجائبه يوم لم يولد هذا العلم ولا يكن له أثر. وفي الختام أشارت الآية إلى آخر مرحلة والتي تعتبر في الحقيقة أهمّ مرحلة في خلق البشر، بعبارة عميقة وذات معنى كبير (ثمّ أنشأناه خلقاً آخر) و (فتبارك الله أحسن الخالقين). مرحباً بهذه القدرة الفريدة، التي خلقت في ظلمات الرحم هذه الصورة البديعة، وصاغت من قطرة ماء كلّ هذه الاُمور المدهشة...
أمّا عبارة (أحسن الخالقين) فتثير هذا التساؤل: هل يوجد خالق غير الله؟! وضع بعض المفسّرين تبريرات لهذه الآية في وقت لا حاجة فيه لهذه التبريرات، لأنّ كلمة «الخلق» بمعنى التقدير والصنع، ويصحّ ذلك بالنسبة لغير الله، إلاّ أنّ هناك اختلافا جوهرياً بين الخلقين... يخلق الله المواد وصورها، بينما يصنع الإنسان أشياءه ممّا خلق الله، فهو يغيّر صورها. كمن يبني داراً حيث يستخدم مواداً أوّلية كالجصّ والآجر، أو يصنع من الحديد سيارة أو ماكنة. ومن جهة أُخرى لا حدود لخلق الله (الله خالق كلّ شيء) سورة الرعد الآية (16) في وقت نجد ما صنعه الإنسان محدوداً جدّاً، وفي كثير من الأحيان يجد الإنسان فيما خلقه هو نقصاً يجب سدّه فيما بعد، إلاّ أنّ الله يبدع الخلق دون أي نقص أو عيب. ثمّ إنّ قدرة الإنسان على صنع الأشياء جاءت بإذن من الله، حيث كلّ شيء في العالم يتحرّك بإذن الله، حتّى الورق على الشجر، كما نقرأ في سورة المائدة الآية (110) عن المسيح (عليه السلام) (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني)...