وقد بين - سبحانه - بعد ذلك أنه لا تأخير فى الأجل متى انتهى لا من قريب ولا من بعيد . . . فقال : { وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ . . . } .
أى : ولن يؤخر الله - تعالى - نفسا من النفوس ، متى انتهى أجلها فى هذه الحياة ، وانقضى عمرها من هذه الدنيا ، كما قال - سبحانه - : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } وقوله : { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أى : والله - تعالى - مطلع إطلاعا تاما على أعمالكم الظاهرة والباطنة ، وسيجازيكم عليها بما تستحقون من ثواب أو عقاب .
( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها )?
وأنى له ما يتقدم به ? ( والله خبير بما تعملون )?
إنها اللمسات المنوعة في الآية الواحدة . في مكانها المناسب بعد عرض سمات المنافقين وكيدهم للمؤمنين . ولواذ المؤمنين بصف الله الذي يقيهم كيد المنافقين . . فما أجدرهم إذن أن ينهضوا بتكاليف الإيمان ، وألا يغفلوا عن ذكر الله . وهو مصدر الأمان . .
ثم قال تعالى : { وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : لا ينظر أحدًا بعد حلول أجله ، وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقًا في قوله وسؤاله ممن لو رُدّ لعاد إلى شر مما كان عليه ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا جعفر بن عون ، حدثنا أبو جَنَاب الكلبي ، عن الضحاك بن مُزاحم ، عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه ، أو تجب عليه فيه زكاةٌ ، فلم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت . فقال رجل : يا ابن عباس ، اتق الله ، فإنما يسأل الرجعة الكفار . فقال سأتلو عليك بذلك قرآنا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ [ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا ] وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } {[28913]} قال : فما يوجب الزكاة ؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعدا . قال : فما يوجب الحج ؟ قال : الزاد والبعير .
ثم قال : حدثنا عبد بن حُميَد ، حدثنا عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن يحيى بن أبي حَيَّة - وهو أبو جناب الكلبي - عن الضحاك ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه{[28914]}
ثم قال : وقد رواه سفيان بن عيينة وغيره ، عن أبي جَنَاب ، عن ابن الضحاك ، عن ابن عباس ، من قوله . وهو أصح ، وضعَّف أبا جناب الكلبي .
قلت : رواية الضحاك عن ابن عباس فيها انقطاع ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نُفَيل ، حدثنا سليمان بن عطاء ، عن مسلمة الجهني ، عن عمه - يعني أبا مشجعة بن رِبْعِي - عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في العمر فقال : " إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها ، وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبدَ ذُرية صالحة يدعون له ، فيلحقه دعاؤهم في قبره " {[28915]}
آخر تفسير سورة " المنافقون " {[28916]} ولله الحمد والمنة
{ وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ } .
اعتراض في آخر الكلام فالواو اعتراضية تذكيراً للمؤمنين بالأجل لكل روح عند حلولها في جسدها حين يؤمر الملك الذي ينفخُ الروح يكتب أجله وعمله ورزقه وشقي أو سعيد . فالأجل هو المدة المعينة لحياته لا يؤخر عن أمده فإذا حضر الموت كان دعاء المؤمن الله بتأخير أجله من الدعاء الذي اسْتجاب لأن الله قدر الآجال .
وهذا سر عظيم لا يعلم حكمة تحديده إلا الله تعالى .
والنفس : الروح ، سميت نفساً أخذاً من النَفس بفتح الفاء وهو الهواء الذي يخرج من الأنف والفم من كل حيوان ذي رئة ، فسميت النفس نفساً لأن النفس يتولد منها ، كما سمي مرادف النفس رُوحاً لأنه مأخوذ الرَوح بفتح الراء لأن الرَّوح به . قاله أبو بكر بن الأنباري .
و { أجلها } الوقت المحدد لبقائها في الهيكل الإِنساني .
ويجوز أن يراد بالنفس الذات ، أي شخص الإِنسان وهو من معاني النفْس . كما في قوله تعالى : { أن النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] وأجلها الوقت المعيَّن مقداره لبقاء الحياة .
و { لَن } لتأكيد نفي التأخير ، وعموم { نفساً } في سياق النفي يعم نفوس المؤمنين وغيرهم .
ومجيء الأجل حلول الوقت المحدد للاتصال بين الروح والجسد وهو ما علمه الله من طاقة البدن للبقاء حياً بحسب قواه وسلامته من العوارض المهلكة .
وهذا إرشاد من الله للمؤمنين ليكونوا على استعداد للموت في كل وقت ، فلا يؤخروا ما يهمهم عمله سؤال ثوابه فما من أحد يؤخر العمل الذي يسره أن يعمله وينال ثوابه إلا وهو معرض لأن يأتيه الموت عن قريب أو يفاجئه ، فعليه بالتحرز الشديد من هذا التفريط في كل وقت وحال ، فربما تعذر عليه التدارك بفجأة الفوات ، أو وهن المقدرة فإنه إن كان لم تطاوعه نفسه على العمل الصالح قبل الفوات فكيف يتمنى تأخير الأجل المحتوم .
{ والله خَبِيرٌ بِمَا تعملون } .
عطف على جملة { لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم } [ المنافقون : 9 ] . أو تذييل والواو اعتراضية .
ويفيد بناء الخبر على الجملة الاسمية تحقيقَ علم الله بما يعمله المؤمنون . ولما كان المؤمنون لا يخامرهم شك في ذلك كان التحقيق والتقوِّي راجعاً إلى لازم الخبر وهو الوعد والوعيد والمقام هنا مقامهما لأن الإِنفاق المأمور به منه الواجب المندوب . وفعلهما يستحق الوعد . وترك أولهما يستحق الوعيد .
وإيثار وصف { خبير } دون : عليم ، لما تؤذن به مادة { خبير } من العلم بالأمور الخفية ليفيد أنه تعالى عليم بما ظهر من الأعمال وما بَطن مثل أعمال القلب التي هي العزائم والنيَّات ، وإيقاع هذه الجملة بعد ذكر ما يقطعه الموت من ازدياد الأعمال الصالحة إيماء إلى أن ما عسى أن يقطعه الموت من العزم على العمل إذا كان وقته المعين له شرعاً ممتداً كالعُمر للحج على المستطيع لمن لم يتوقع طروّ مانع . وكالوقت المختار للصلوات ، أن حيلولة الموت دون إتمامه لا يُرْزِىء المؤمن ثوابه لأن المؤمن إذا اعتاد حزباً أو عزم على عمل صالح ثم عرض له ما منعه منه أن الله يعطيه أجره .
ومن هذا القبيل : أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة كما في الحديث الصّحيح .
وقرأ الجمهور { بما تعملون } بالمثناة الفوقية . وقرأه أبو بكر عن عاصم بالمثناة التحتية فيكون ضمير الغيبة عائداً إلى { نفساً } الواقع في سياق النفي لأنه عام فله حكم الجمع في المعنى .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَلَنْ يُؤخّرَ اللّهُ نَفْسا إذَا جاءَ أجَلُها "يقول: لن يؤخر الله في أجل أحد فيمدّ له فيه إذا حضر أجله، ولكنه يخترمه.
"وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" يقول: والله ذو خبرة وعلم بأعمال عبيده هو بجميعها محيط، لا يخفى عليه شيء، وهو مجازيهم بها، المحسنَ بإحسانه، والمسيء بإساءته...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَلَن يُؤَخّرَ الله} نفي للتأخير على وجه التأكيد الذي معناه منافاة المنفي الحكمة. والمعنى: إنكم إذا علمتم أنّ تأخير الموت عن وقته مما لا سبيل إليه، وأنه هاجم لا محالة، وأنّ الله عليم بأعمالكم فمجاز عليها، من منع واجب وغيره، لم تبق إلا المسارعة إلى الخروج عن عهدة الواجبات والاستعداد للقاء الله...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
حض على المبادرة ومسابقة الأجل بالعمل الصالح...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولن} ويجوز أن تكون الجملة حالاً أي قال ذلك والحال أنه لن {يؤخر الله} أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له فلا اعتراض عليه {نفساً} أي أيّ نفس كانت، وحقق الأجل بقوله: {إذا جاء أجلها} أي وقت موتها الذي حده الله لها فلا يؤخر الله نفس هذا القائل لأنها من جملة النفوس التي شملها النفي...
{والله} أي الذي له الإحاطة الشاملة علماً وقدرة {خبير} أي بالغ الخبرة والعلم ظاهراً وباطناً {بما تعملون} أي توقعون عمله في الماضي والحال والمآل كله ظاهره وباطنه من هذا الذي أخبرتكم أن المحتضر العاصي يقوله ومن غيره منه ومن غيره أيها الناس...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ}...
. فالأجل هو المدة المعينة لحياته لا يؤخر عن أمده فإذا حضر الموت كان دعاء المؤمن الله بتأخير أجله من الدعاء الذي لا يسْتجاب لأن الله قدر الآجال. وهذا سر عظيم لا يعلم حكمة تحديده إلا الله تعالى. والنفس: الروح، سميت نفساً أخذاً من النَفس بفتح الفاء وهو الهواء الذي يخرج من الأنف والفم من كل حيوان ذي رئة، فسميت النفس نفساً لأن النفس يتولد منها، كما سمي مرادف النفس رُوحاً لأنه مأخوذ الرَوح بفتح الراء لأن الرَّوح به. قاله أبو بكر بن الأنباري. و {أجلها} الوقت المحدد لبقائها في الهيكل الإِنساني. ويجوز أن يراد بالنفس الذات، أي شخص الإِنسان وهو من معاني النفْس. كما في قوله تعالى: {أن النفس بالنفس} [المائدة: 45] وأجلها الوقت المعيَّن مقداره لبقاء الحياة. و {لَن} لتأكيد نفي التأخير، وعموم {نفساً} في سياق النفي يعم نفوس المؤمنين وغيرهم. ومجيء الأجل حلول الوقت المحدد للاتصال بين الروح والجسد وهو ما علمه الله من طاقة البدن للبقاء حياً بحسب قواه وسلامته من العوارض المهلكة. وهذا إرشاد من الله للمؤمنين ليكونوا على استعداد للموت في كل وقت، فلا يؤخروا ما يهمهم عمله سؤال ثوابه فما من أحد يؤخر العمل الذي يسره أن يعمله وينال ثوابه إلا وهو معرض لأن يأتيه الموت عن قريب أو يفاجئه، فعليه بالتحرز الشديد من هذا التفريط في كل وقت وحال، فربما تعذر عليه التدارك بفجأة الفوات، أو وهن المقدرة فإنه إن كان لم تطاوعه نفسه على العمل الصالح قبل الفوات فكيف يتمنى تأخير الأجل المحتوم. {والله خَبِيرٌ بِمَا تعملون}. عطف على جملة {لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم} [المنافقون: 9]...
.ولما كان المؤمنون لا يخامرهم شك في ذلك كان التحقيق والتقوِّي راجعاً إلى لازم الخبر وهو الوعد والوعيد والمقام هنا مقامهما لأن الإِنفاق المأمور به منه الواجب المندوب. وفعلهما يستحق الوعد. وترك أولهما يستحق الوعيد. وإيثار وصف {خبير} دون: عليم، لما تؤذن به مادة {خبير} من العلم بالأمور الخفية ليفيد أنه تعالى عليم بما ظهر من الأعمال وما بَطن مثل أعمال القلب التي هي العزائم والنيَّات، وإيقاع هذه الجملة بعد ذكر ما يقطعه الموت من ازدياد الأعمال الصالحة إيماء إلى أن ما عسى أن يقطعه الموت من العزم على العمل إذا كان وقته المعين له شرعاً ممتداً كالعُمر للحج على المستطيع لمن لم يتوقع طروّ مانع. وكالوقت المختار للصلوات، أن حيلولة الموت دون إتمامه لا يُرْزِئ المؤمن ثوابه لأن المؤمن إذا اعتاد حزباً أو عزم على عمل صالح ثم عرض له ما منعه منه أن الله يعطيه أجره. ومن هذا القبيل: أنّ من همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة كما في الحديث الصّحيح...