والمراد بقوله - تعالى -: { فَإِذَا قَرَأْتَ ?لْقُرْآنَ.. } أى فإذا أردت قراءته. فالكلام على حذف الإِرادة، وذلك لأن المعنى الذى طلبت من أجله الاستعاذة وهو دفع وسوسة الشيطان يقتضى أن يبدأ القارئ بها - أى بالاستعاذة - قبل القراءة لا بعدها وشبيه بهذه الآية فى حذف الإِرادة لدلالة المقام عليها قوله - تعالى -:
{ يَا أَيُّهَا ?لَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ?لصَّلاةِ ف?غْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى ?لْمَرَافِقِ.. }
أى: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا.
وقوله - تعالى -: { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } أى: أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا.
والمعنى: فإذا أردت - أيها المسلم - قراءة القرآن { فاستعذ بالله } أى: فاستجر بالله، والتجئ إلى حماه { مِنَ ?لشَّيْطَانِ ?لرَّجِيمِ }.
قال ابن كثير: " والشيطان فى لغة العرب، كل متمرد من الجن والإِنس والدواب وكل شئ، وهو مشتق من شطن بمعنى بعد، فهو بعيد بطبعه عن طباع البشر، وبعيد بفسقه عن كل خير... ".
والرجيم بزنة فعيل بمعنى مفعول. أى: أنه مرجوم ومطرود من رحمة الله - تعالى -.
قال بعض العلماء: وإنما خصت القراءة بطلب الاستعاذة، مع أنه قد أمر بها على وجه العموم فى جميع الشئون، لأن القرآن مصدر هداية، والشيطان مصدر ضلال، فهو يقف للإنسان بالمرصاد فى هذا الشأن على وجه خاص، فيثير أمامه ألوانا من الشكوك فيما يفيد من قراءته، وفيما يقصد بها، فيفوت عليه الانتفاع بهدى الله وآياته. فعلمنا الله - تعالى - أن نتقى ذلك كله بهذه الاستعاذة التى هى فى الواقع عنوان صادق، وتعبير حق، عن امتلاء قلب المؤمن بمعنى اللجوء إلى الله. وقوة عزيمته فى طرد الشيطان ووساوسه، واستقبال هدايته بقلب طاهر، وعقل واع وإيمان ثابت.
وكيفية الاستعاذة أن يقول القارئ عند إرادة قراءته للقرآن، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فقد تضافرت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الصيغة.
قال الآلوسى. وروى الثعلبى والواحدى " أن ابن مسعود قرأ عن النبى صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم: " يابن أم عبد، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنى جبريل.. " ".
وقال صاحب تفسير آيات الأحكام: والأمر بها - أى بالاستعاذة - للندب عند الجمهور.
وعن الثورى أنها واجبة. وظاهر الآية يؤيده، إذ الأمر للوجوب. والجمهور يقولون: إنه صرفها عن الوجوب ما ورد من أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلمها للأعرابى - أى الذى سأله عن كيفية الصلاة - وأيضا فقد روى أنه كان صلى الله عليه وسلم يتركها.
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك أن وسوسة الشيطان لا أثر لها على المؤمنين الصادقين فقال - تعالى -: { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى? ?لَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى? رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أى: إن الشيطان مهما تمرد وعتا فإنه { لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ } أى: ليس له تسلط واستيلاء واستحواذ بالقهر والغلبة، على نفوس الذين آمنوا بالله - تعالى - حق الإِيمان والذين هم عليه - تعالى - وحده يتوكلون ويعتمدون لا على غيره.
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى -:
{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ ?تَّبَعَكَ مِنَ ?لْغَاوِينَ }
{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى? بِرَبِّكَ وَكِيلاً }
{ ليس له سلطان } يوم القيامة ، فيستقيم أن يكون بمعنى الحجة ؛ لأن إبليس له حجة على الكافرين أنه دعاهم بغير دليل فاستجابوا له من قبل أنفسهم ، وهؤلاء الذين لا سلطان ولا رياسة لإبليس عليهم هم المؤمنون أجمعون ؛ لأن الله لم يجعل سلطانه إلا على المشركين الذين يتولونه ، والسلطان منفي هاهنا في الإشراك ، إذ له عليهم ملكة ما في المعاصي ، وهم الذين قال الله فيهم : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان }{[7412]} [ الحجر : 42 ] ، وهم الذين قال إبليس فيهم : { إلا عبادك منهم المخلصين }{[7413]} [ الحجر : 40 ] .
جملة { إنه ليس له سلطان } الآية تعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان عند إرادة قراءة القرآن وبيان لصفة الاستعاذة .
فأما كونها تعليلاً فلزيادة الحثّ على الامتثال للأمر بأن الاستعاذة تمنع تسلّط الشيطان على المستعيذ لأن الله منعه من التسلّط على الذين آمنوا المتوكّلين ، والاستعاذة منه شعبة من شعب التوكّل على الله لأن اللّجأ إليه توكّل عليه . وفي الإعلام بالعلّة تنشيط للمأمور بالفعل على الامتثال إذ يصير عالماً بالحكمة وأما كونها بياناً فلما تضمّنته من ذكر التوكّل على الله ليبيّن أن الاستعاذة إعراب عن التوَكّل على الله تعالى لدفع سلطان الشيْطان ليعقد المستعيذُ نيّتَه على ذلك .
وليست الاستعاذة مجرّد قول بدون استحضار نيّة العَوذ بالله .
فجملة { وعلى ربهم يتوكلون } صفة ثانية للموصول . وقدّم المجرور على الفعل للقصر ، أي لا يتوكّلون إلا على ربّهم . وجعل فعلها مضارعاً لإفاة تجدّد التوكّل واستمراره . فنَفي سلطان الشيطان مشروط بالأمرين : الإيمان ، والتوكّل . ومن هذا تفسير لقوله تعالى في الآية الأخرى { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } [ سورة الحجر : 42 ] .
والسّلطان : مصدر بوزن الغُفران ، وهو التسلّط والتصرّف المكين .
فالمعنى أن الإيمان مبدأ أصيل لتوهين سلطان الشيطان في نفس المؤمن فإذا انضمّ إليه التوكّل على الله اندفع سلطان الشيطان عن المؤمن المتوكّل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
أما قوله: {إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ}، فإنه يعني بذلك: أن الشيطان ليست له حجة على الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا بما أمر الله به، وانتهوا عما نهاهم الله عنه. {وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ}، يقول: وعلى ربهم يتوكلون فيما نابهم من مهمات أمورهم.
{إنّمَا سُلْطَانُه عَلىَ الّذِينَ يتَولّونَهُ}، يقول: إنما حجته على الذين يعبدونه، {وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}، يقول: والذين هم بالله مشركون...
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي من أجله لم يسلط فيه الشيطان على المؤمن؛ فقال بعضهم:...عن سفيان، في قوله: {إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ} قال: ليس له سلطان على أن يحملهم على ذنب لا يغفر.
وقال آخرون: هو الاستعاذة، فإنه إذا استعاذ بالله، منع منه ولم يسلط عليه. واستشهد لصحة قوله ذلك بقول الله تعالى: {وإمّا يَنْزَغَنّكَ منَ الشّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللّهِ إنّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، وقد ذكرنا الرواية بذلك في سورة الحِجْر.
وقال آخرون في ذلك:...عن الربيع، في قوله: {إنّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلى الّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ}، إلى قوله: {وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} يقال: إن عدوّ الله إبليس قال: {لأغْوِيَنّهُمْ أجَمعينَ إلاّ عبادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ}، فهؤلاء الذين لم يجعل للشيطان عليهم سبيل، وإنما سلطانه على قوم اتخذوه وليّا وأشركوه في أعمالهم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معناه: إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا فاستعاذوا بالله منه، بما ندب الله تعالى ذكره من الاستعاذة، {وَعَلى رَبهِمْ يَتَوَكّلُونَ}، على ما عرض لهم من خطراته ووساوسه.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية؛ لأن الله تعالى ذكره أتبع هذا القول: {فإذَا قَرأتَ القُرآنَ فاسْتَعِذْ باللّهِ مِنَ الشّيْطانِ الرّجِيمِ}، وقال في موضع آخر: {وَإمّا يَنْزَغَنّكَ مِنَ الشّيْطانِ نَزْغٌ فاسْتَعِذْ باللّهِ إنّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، فكان بينا بذلك أنه إنما ندب عباده إلى الاستعاذة منه في هذه الأحوال ليُعيذهم من سلطانه.
وأما قوله: {وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله؛ فقال بعضهم فيه بما قلنا إن معناه: والذين هم بالله مشركون... عن مجاهد: {وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}، قال: يعدلون بالله...
وقال آخرون: معنى ذلك: والذين هم به مشركون، أشركوا الشيطان في أعمالهم...
والقول الأوّل، أعني قول مجاهد، أولى القولين في ذلك بالصواب، وذلك أن الذين يتولون الشيطان إنما يشركونه بالله في عبادتهم وذبائحهم ومطاعمهم ومشاربهم، لا أنهم يشركون بالشيطان. ولو كان معنى الكلام ما قاله الربيع، لكان التنزيل: الذين هم مشركوه، ولم يكن في الكلام «به»، فكان يكون لو كان التنزيل كذلك: والذين هم مشركوه في أعمالهم، إلا أن يوجه موجه معنى الكلام إلى أن القوم كانوا يدينون بألوهة الشيطان ويشركون الله به في عبادتهم إياه، فيصحّ حينئذ معنى الكلام، ويخرج عما جاء التنزيل به في سائر القرآن، وذلك أن الله تعالى وصف المشركين في سائر سور القرآن أنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به عليهم سلطانا، وقال في كل موضع تقدّم إليهم بالزجر عن ذلك: لا تشركوا بالله شيئا، ولم نجد في شيء من التنزيل: لا تشركوا الله بشيء، ولا في شيء من القرآن خبرا من الله عنهم أنهم أشركوا الله بشيء فيجوز لنا توجيه معنى قوله: {وَالّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ}، إلى والذين هم بالشيطان مشركو الله. فبين إذا إذ كان ذلك كذلك أن الهاء في قوله: {وَالّذِينَ هُمْ بِهِ}، عائدة على «الربّ» في قوله: {وَعَلى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ}.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: ليس له سبيل على الذين آمنوا. وقال بعضهم: السلطان الحجة، أي: ليس له حجة على الذين آمنوا. و قال بعضهم: أي: ليس له ملك على الذين آمنوا، ملك القهر والغلبة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ}، أي: تسلط وولاية على أولياء الله، يعني: أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته...
اعلم أنه تعالى لما أمر رسوله بالاستعاذة من الشيطان وكان ذلك يوهم أن للشيطان قدرة على التصرف في أبدان الناس، فأزال الله تعالى هذا الوهم، وبين أنه لا قدرة له البتة إلا على الوسوسة فقال: {إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} ويظهر من هذا أن الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفا، وأنه لا يمكنه التحفظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله تعالى، ولهذا المعنى قال المحققون: لا حول عن معصية الله تعالى إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله تعالى، والتفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله: {وعلى ربهم يتوكلون}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان ذلك ربما هو أوهم تعظيمه، نفى ذلك بقوله جواباً لمن كأنه قال: هل له سلطان؟: {إنه ليس له سلطان}، أي: بحيث لا يقدر المسلط عليه على الانفكاك عنه، {على الذين ءامنوا} بتوفيق ربهم لهم. {وعلى ربهم}، أي: وحده، {يتوكلون}، ويجوز أن يكون المعنى: أنه لما تقرر في الأذهان أنه لا نجاة من الشيطان؛ لأنه سلط علينا بأنه يرانا من حيث لا نراه، ويجري فينا مجرى الدم، وكانت فائدة الاستعاذة الإعاذة، أشير إلى حصولها بقوله على سبيل التعليل:"إنه"، أي: استعذ بالله يعذك منه؛ لأنه ليس له سلطان على الذين آمنوا بالله، ليردهم كلهم عما يرضي الله، وعلى ربهم وحده يتوكلون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جملة {إنه ليس له سلطان} الآية تعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان عند إرادة قراءة القرآن وبيان لصفة الاستعاذة. فأما كونها تعليلاً فلزيادة الحثّ على الامتثال للأمر بأن الاستعاذة تمنع تسلّط الشيطان على المستعيذ لأن الله منعه من التسلّط على الذين آمنوا المتوكّلين، والاستعاذة منه شعبة من شعب التوكّل على الله لأن اللّجأ إليه توكّل عليه. وفي الإعلام بالعلّة تنشيط للمأمور بالفعل على الامتثال إذ يصير عالماً بالحكمة وأما كونها بياناً فلما تضمّنته من ذكر التوكّل على الله ليبيّن أن الاستعاذة إعراب عن التوَكّل على الله تعالى لدفع سلطان الشيْطان ليعقد المستعيذُ نيّتَه على ذلك...
وليست الاستعاذة مجرّد قول بدون استحضار نيّة العَوذ بالله...
وقدّم المجرور على الفعل للقصر... فالمعنى أن الإيمان مبدأ أصيل لتوهين سلطان الشيطان في نفس المؤمن فإذا انضمّ إليه التوكّل على الله اندفع سلطان الشيطان عن المؤمن المتوكّل...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
يحصن المؤمنين من الشيطان أمور ثلاثة:... الحصن الأول – الاستعاذة منه بالقلب واللسان كما أمر الله تعالى: {فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وقال:"علمنيها جبريل" فإن الاستعاذة تحصين للقلب من وساوس الشيطان ودخول هذا الحصن قراءة القرآن الكريم...
والحصن الثاني – الإيمان فإن الإيمان حصن الحق من الغرور والأوهام والأهواء، وكلها ذرائع الشيطان؛ ولذا قال في وعيده بالإغواء: {...ولأغوينهم أجميعن (39) إلا عبادك منهم المخلصين (40)} [الحجر]...
والحصن الثالث – التوكل على الله حق توكله، وأخذ الأسباب وتفويض الأمر إليه تعالى، وهو العلي القدير...
ولا يمكن أن يكون له ذلك عليها؛ لأنه تعرف أنه عدوها ومرديها ومفسدها، وماضيه في ذلك عندها معروف عليها؛ لأنها تعرف أنه عدوها ومرديها ومفسدها، وماضيه في ذلك عندها معروف علمها إياه الحكيم العليم، وهي تتوكل على الله وحده، فلا يمكن أن يستولي عليها، فالنفس ليست فارغة حتى يتولاها...
فليس في قلوبهم فراغ للشيطان يحتله، والتعبير ب {ربهم} يزكى توكلهم؛ لأنه الذي ذرأهم ورباهم وكونهم...
كلمة السلطان مأخوذة من السليط، وهو الزيت الذي كانوا يوقدون به السرج والمصابيح قبل اكتشاف الكهرباء، فكانوا يضعون هذا الزيت في إناء مغلق مثل السلطانية يخرج منه فتيلة، وعندما توقد تمتص من هذا الزيت وتضيء؛ ولذلك سميت الحجة سلطاناً؛ لأنها تنير لصاحبها وجه الحق...
والسلطان، إما سلطان حجة تقنعك بالفعل، فتفعل وأنت راضٍ مقتنع به. وإما سلطان قهر وغلبة يجبرك على الفعل، ويحملك عليه قهراً دون اقتناع به...
والحقيقة أن الشيطان لا يملك أياً من هاتين القوتين، لا قوة الحجة والإقناع، ولا قوة القهر. وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى على لسان الشيطان يوم القيامة: {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم "22 "} (سورة إبراهيم)...
يوضح الحق تبارك وتعالى أن تسلط الشيطان لا يقع على من آمن به رباً، ولجأ إليه واعتصم به...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}، بما يمثله الإيمان من اتصال بالله، وانفتاحٍ عليه، في عالم الغيب والشهادة، وثقةٍ به، ووعيٍ لكل سننه في الحياة، وفهمٍ لحكمته، وانتظار لرحمته، وبما يمثله التوكل عليه من أمل كبير في المستقبل الذي تحكمه إرادته، في ما يدبر أمره، مما لا يستطيع المخلوق تدبيره،؛ لأن الله قد كلف عبده بما يستطيع، وتكفل بتدبير القسم الآخر، وبهذا كان التوكل متصلاً بخط المستقبل في حركة الغيب، بعد انطلاق حركة الإنسان الإرادية الواقعية من الحاضر ومقدمات المستقبل، سواءٌ في مشاريع الحياة، أو في مشاريع الإيمان، أو في مشاريع العمل المتحرك في أجواء الإيمان، فهو يتحرك بسلطان الله بشكل غير مباشر في نطاق حركته الذاتية كإنسان، وهو يخضع لكل سلطانه بشكل مباشر في ما يملك الله أمره، ولا يملكه هو. ولا سلطان في وعيه لأي سلطان غير سلطان الله...