وبعد أن يئس الكل من نصرة بعضهم لبعض ، اتجهوا جميعا نحو خزنة جهنم لعلهم يشفعون لهم عند ربهم ، ويحكى القرآن : ذلك فيقول : { وَقَالَ الذين فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ } وهم الملائكة المكلفون بتعذيب الكافرين .
قالوا لهم : { ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب } أى : ادعوا ربكم أن يخفف عنا يوما واحدا من الأيام الكثيرة التى ينزل علينا العذاب فيها بدون انقطاع ، لعلنا فى هذا اليوم نستطيع أن نلتقط أنفاسنا التى مزقها العذاب الدائم .
وهنا يرد عليهم خزنة جهنم بقولهم : { أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات }
وحين أدرك هؤلاء وهؤلاء أن لا ملجأ من الله إلا إليه ، اتجه هؤلاء وهؤلاء لخزنة جهنم في ذلة تعم الجميع ، وفي ضراعة تسوي هؤلاء بهؤلاء :
( وقال الذين في النار لخزنة جهنم : ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب ) . .
إنهم يستشفعون حراس جهنم ، ليدعوا ربهم . في رجاء يكشف عن شدة البلاء : ( ادعوا ربكم يخفف عنايوماً من العذاب ) . . يوماً . يوماً فقط . يوماً يلقطون فيه أنفاسهم ويستريحون . فيوم واحد يستحق الشفاعة واللهفة والدعاء .
{ وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ } لما علموا أن الله ، سبحانه ، لا يستجيب منهم ولا يستمع لدعائهم ، بل قد قال : { اخْسَؤُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 108 ] سألوا الخزنة - وهم كالبوابين{[25535]} لأهل النار - أن يدعوا لهم الله أن يخفف عن الكافرين ولو يوما واحدا من العذاب .
{ وقال الذين في النار لخزنة جهنم } أي لخزنتها ، ووضع { جهنم } موضع الضمير للتهويل أو لبيان محلهم فيها ، إذ يحتمل أن تكون { جهنم } أبعد دركاتها من قولهم : بئر جهنام بعيدة القعر . { ادعوا ربكم يخفف عنا يوما } قدر يوم . { من العذاب } شيئا من العذاب ، ويجوز أن يكون المفعول " يوم " بحذف المضاف و { من العذاب } بيانه .
لما لم يجدوا مساغاً للتخفيف من العذاب في جانب كُبرائهم ، وتنصَّلَ كبراؤُهم من ذلك أو اعترفوا بغلطهم وتوريطهم قومَهم وأنفسَهم تمَالأَ الجميع على محاولة طلب تخفيف العذاب بدعوة من خَزَنة جهنم ، فلذلك أسند القول إلى الذين في النار ، أي جميعهم من الضعفاء والذين استكبروا .
وخَزَنة : جمع خَازن ، وهو الحافظ لما في المكان من مال أو عروض . و { خزنة جهنم } هم الملائكة الموكَّلون بما تحويه من النار ووَقودها والمعذبين فيها وموكلون بتسيير ما تحتوي عليه دار العذاب وأهلها ولذلك يقال لهم : خزنة النار ، لأن الخزن لا يتعلق بالنار بل بما يحويها فليس قوله هنا : { جهنم } إظهاراً في مقام الإِضمار إذ لا يحسن إضافة خزنة إلى النار ولو تقدم لفظ جهنم لقال : لخزنتها ، كما في قوله في سورة [ الملك : 6 8 ] { وللذين كفروا بربهم عذاب ( جهنم ) وبئس المصير } إلى قوله : { سألهم خزنتها } فإن الضمير ل { جهنم } لا ل { النار } .
وفي « الكشاف » أنه من الإِظهار في مقام الإِضمار للتهويل بلفظ { جهنم } ، والمسلك الذي سلكناه أوضح .
وفي إضافة ( رب ) إلى ضمير المخاطبين ضرب من الإِغراء بالدعاء ، أي لأنكم أقرب إلى استجابته لكم . ولما ظنُّوهم أرجى للاستجابة سألوا التخفيف يوماً من أزمنة العذاب وهو أنفع لهم من تخفيف قوة النار الذي سألوه من مستكبريهم .
وجزم { يخفف } بعد الأمر بالدعاء ، ولعله بتقدير لام الأمر لكثرة الاستعمال ، ومن أهل العربية من يجعله جزماً في جواب الطلب لتحقيق التسبب . فيكون فيه إيذان بأن الذين في النار واثقون بأن خزنة جهنم إذا دعوا الله استجاب لهم . وهذا الجزم شائع بعد الأمر بالقول وما في معناه لهذه النكتة وحقه الرفع أو إظهار لام الأمر . وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة } في سورة [ إبراهيم : 31 ] .
( وضمّن { يخفف } معنى ينقص فنصب { يوماً ، } أو هو على تقدير مضاف ، أي عذاب يوم ، أي مقدار يوم ، وانتصب { يوماً } على المفعول به ل { يخفف } .
واليومُ كناية عن القلة ، أي يخفف عنا ولو زمناً قليلاً . و { مِنَ العَذَابِ } بيان ل { يوماً } لأنه أريد به المقدار فاحتاج إلى البيان على نحو التمييز . ويجوز تعلقه ب { يخفف } .
وجوَابُ خزنة جهنم لهم بطريق الاستفهام التقريري المراد به : إظهارُ سوء صنيعهم بأنفسهم إذ لم يتبعوا الرسل حتى وقعوا في هذا العذاب ، وتنديمُهم على ما أضاعوه في حياتهم الدنيا من وسائل النجاة من العقاب . وهو كلام جامع يتضمن التوبيخ ، والتنديم ، والتحسير ، وبيان سبب تجنب الدعاء لهم ، وتذكيرهم بأن الرسل كانت تحذرهم من الخلود في العذاب .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقال الذين في النار} فلما ذاق أهل النار شدة العذاب، قالوا: {لخزنة جهنم ادعوا ربكم} يعني سلوا لنا ربكم.
{يخفف عنا يوما} من أيام الدنيا إضمار {من العذاب}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال أهل جهنم لخزنتها وقوّامها، استغاثة بهم من عظيم ما هم فيه من البلاء، ورجاء أن يجدوا من عندهم فرجا "ادْعُوا رَبّكُمْ "لَنا "يُخَفّفْ عَنّا يَوْما "واحدا، يعني قدر يوم واحد من أيام الدنيا طمِنَ العَذَابِ" الذي نحن فيه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} كان فزع الكفرة أبدا إلى الخلق إذا نزل بهم البلاء في الدنيا إلا أن يضطرّوا، فعند ذلك يفزعون إلى الله تعالى.
فأما ما لم ييأسوا منهم فلا يفزعون إليه. فعلى ذلك يكون فزعهم في الآخرة إلى الخلق، وهو ما سألوا أهل الجنة من الماء. أخبر الله تعالى عنهم بقوله: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50] فلما أيِسوا من عند ذلك فزعوا إلى مالك، وهو ما أخبره الله تعالى عنهم بقوله: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] سألوه الموت فلما أخبرهم أنهم ماكثون. فعند ذلك فزعوا إلى الخزنة، وقالوا: {ادعوا ربكم يخفّف عنا يوما من العذاب}...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
هذه أيضاً من أمارات الأجنبية، فهم يُدْخِلُونَ واسطةً بينهم وبين ربِّهم. ثم إن الله ينزع الرحمة عن قلوب الملائكة كي لا يستشفعوا لهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} في ذكر جهنم تهويلاً وتفظيعاً، ويحتمل أن جهنم هي أبعد النار قعراً من قولهم: بئر جهنام بعيدة القعر، وفيها أعتى الكفار وأطغاهم، فلعل الملائكة الموكلين بعذاب أولئك أجوب دعوة لزيادة قربهم من الله تعالى، فلهذا تعمدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما دل على أنه لا يغني أحد عن أحد شيئاً، أخبر انهم لما رأوا بعدهم من الله وأنهم ليسوا بأهل لدعائه سبحانه، علقوا آمالهم بتوسط الملائكة، فأخبر عن ذلك منهم بقوله: {وقال الذين في النار} أي جميعاً الأتباع والمتبوعون.
{لخزنة} ووضع موضع الضمير قوله: {جهنم} للدلالة على أن سؤالهم لأهل الطبقة التي من شأنها وشأن خزنتها تجهم داخليها؛ ليدل على أنهم لسوء ما هم فيه لا يعقلون، فهم لا يضعون شيئاً في محله كما كانوا في الدنيا: {ادعوا ربكم} أي المحسن إليكم بأنكم لا تجدون ألماً من النار.
{يخفف عنه يوماً} أي مقداره {من العذاب} أي بعضه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وحين أدرك هؤلاء وهؤلاء أن لا ملجأ من الله إلا إليه، اتجه هؤلاء وهؤلاء لخزنة جهنم في ذلة تعم الجميع، وفي ضراعة تسوي هؤلاء بهؤلاء: (وقال الذين في النار لخزنة جهنم: ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب).. إنهم يستشفعون حراس جهنم، ليدعوا ربهم. في رجاء يكشف عن شدة البلاء: (ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب).. يوماً. يوماً فقط. يوماً يلقطون فيه أنفاسهم ويستريحون. فيوم واحد يستحق الشفاعة واللهفة والدعاء...