{ 9 - 12 } { وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ }
أي : وكذلك غير هاتين الأمتين الطاغيتين عاد وثمود جاء غيرهم من الطغاة العتاة كفرعون مصر الذي أرسل الله إليه عبده ورسوله موسى [ ابن عمران ] عليه الصلاة والسلام وأراه من الآيات البينات ما تيقنوا بها الحق ولكن جحدوا وكفروا ظلما وعلوا وجاء من قبله من المكذبين ، { وَالْمُؤْتَفِكَاتِ } أي : قرى قوم لوط الجميع جاءوا { بِالْخَاطِئَةِ } أي : بالفعلة الطاغية وهي{[1208]} الكفر والتكذيب والظلم والمعاندة وما انضم إلى ذلك من أنواع الفواحش{[1209]} والفسوق .
ثم بين - سبحانه - النهاية السيئة لأقوام آخرين فقال : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ . فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } .
وفرعون : هو الذى قال لقومه - من بين ما قال - أنا ربكم الأعلى . . . وقد أرسل الله - تعالى - إليه نبيه موسى - عليه السلام - ولكنه أعرض عن دعوته . . وكانت نهايته الغرق .
والمراد بمن قبله : الأقوام الذين سبقوه فى الكفر ، كقوم نوح وإبراهيم - عليهما السلام - .
والمراد بالمؤتفكات : قرى قوم لوط - عليه السلام - التى اقتلعها جبريل - عليه السلام - ثم قلبها بأن جعل عاليها سافلها ، مأخوذ من ائتفك الشئ إذا انقلب رأسا على عقب .
قال - تعالى - { فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } والمراد بالمؤتفكات هنا : سكانها وهم قوم لوط الذين أتوا بفاحشة ما سبقهم إليها أحد من العالمين .
وخصوا بالذكر ، لشهرة جريمتهم وبشاعتها وشناعتها . . ولمرور أهل مكة على قراهم وهم فى طريقهم إلى الشام للتجارة ، كما قال - تعالى - : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ . وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أى : وبعد أن أهلكنا أقوام عاد وثمود . . جاء فرعون ، وجاء أقوام آخرون قبله ، وجاء قوم لوط ، وكانوا جميعا كافرين برسلنا ، ومعرضين عن دعوة الحق ومرتكبين للفعلات الخاطئة ، والفواحش المنكرة .
( وجاء فرعون ومن قبله والمؤتكفات بالخاطئة . فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية . . )
وفرعون كان في مصر - وهو فرعون موسى - ومن قبله لا يذكر عنهم تفصيل . والمؤتفكات قرى لوط المدمرة التي اتبعت الإفك أو التي انقلبت ، فاللفظ يعني هذا وهذا . ويجمل السياق فعال هؤلاء جميعا ، فيقول عنهم انهم جاءوا( بالخاطئة )أي بالفعلة الخاطئة . . من الخطيئة . .
ثم قال تعالى : { وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ } قُرئ بكسر القاف ، أي : ومن عنده في زمانه من أتباعه من كفار القبط . وقرأ آخرون بفتحها ، أي : ومن قبله من الأمم المشبهين له .
وقوله : { والمؤتفكات } وهم المكذبون بالرسل . { بالخاطئة } أي بالفعلة الخاطئة ، وهي التكذيب بما أنزل الله .
قال الربيع : { بالخاطئة } أي : بالمعصية وقال مجاهد : بالخطايا ؛ ولهذا قال : تعالى { فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ }
وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة وأبو جعفر وشيبة وأبو عبد الرحمن والناس : «من قَبْله » بفتح القاف وسكون الباء أي الأمم الكافرة التي كانت قبله ، ويؤيد ذلك ذكره قصة نوح في طغيان الماء لأن قوله : { من قبله } ، قد تضمنه فحسن اقتضاب أمرهم بعد ذلك دون تصريح . وقال أبو عمرو والكسائي وعاصم في رواية أبان والحسن بخلاف عنه وأبو رجاء والجحدري وطلحة : «ومن قِبَله » ، بكسر القاف وفتح الباء أي أجناده وأهل طاعته ويؤيد ذلك أن في مصحف أبيّ بن كعب : «وجاء فرعون ومن معه » ، وفي حرف أبي موسى : «ومن تلقاءه » . وقرأ طلحة بن مصرف : «ومن حوله » . وقبل الإنسان : ما يليه في المكان وكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة عندي وفي ذمتي وما يليني بأي وجه وليني . و : { المؤتفكات } قرى قوم لوط ، وكانت أربعاً فيما روي ، وائتفكت : قلبت وصرفت عاليها سافلها فائتفكت هي فهي مؤتفكة ، وقرأ الحسن هنا : «والمؤتفكة » على الإفراد ، و { الخاطئة } : إما أن تكون صفة لمحذوف كأنه قال بالفعل الخاطئة ، وإما أن يريد المصدر ، أي بالخطأ في كفرهم وعصيانهم .
عطف على جملة { كذبت ثمود وعاد بالقارعة } [ الحاقة : 4 ] .
وقد جُمع في الذكر هنا عدةُ أمم تقدمت قبل بعثة موسى عليه السلام إجمالاً وتصريحاً ، وخص منهم بالتصريح قوم فرعون والمؤتفكات لأنهم من أشهر الأمم ذكراً عند أهل الكتاب المختلطين بالعرب والنازلين بجوارهم ، فمن العرب من يبلغه بعض الخبر عن قصتهم .
وفي عطف هؤلاء على ثمود وعاد في سياق ذكر التكذيب بالقارعة إيماء إلى أنهم تشابهوا في التكذيب بالقارعة كما تشابهوا في المجيء بالخاطئة وعصيان رسل ربّهم ، فحصل في الكلام احتباك .
والمراد بفرعون فرعون الذي أرسل إليه موسى عليه السلام وهو ( مِنفطاح الثاني ) . وإنما أسند الخِطْء إليه لأن موسى أرسل إليه ليُطلق بني إسرائيل من العبودية قال تعالى : { اذهب إلى فرعون إنه طغى } [ النازعات : 17 ] فهو المؤاخذ بهذا العصيان وتبعه القبط امتثالاً لأمره وكذبوا موسى وأعرضوا عن دعوته .
وشمل قوله : { ومَن قبله } أمَماً كثيرة منها قوم نوح وقوم إبراهيم .
وقرأ الجمهور { ومن قَبله } بفتح القاف وسكون الباء . وقرأ أبو عمرو والكسائي ويعقوب بكسر القاف وفتح الباء ، أي ومن كان من جهته ، أي قومه وأتباعه .
و { المؤتفكات } : قُرى لوط الثلاثُ ، وأريد بالمؤتفكات سكانها وهم قوم لوط وخصوا بالذكر لشهرة جريمتهم ولكونهم كانوا مشهورين عند العرب إذ كانت قُراهم في طريقهم إلى الشام ، قال تعالى : { وإنكم لتمرُّون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون } [ الصافات : 137 ، 138 ] وقال : { ولقد أتوا على القرية التي أُمْطِرت مطَر السوء أفلم يكونوا يرونها } [ الفرقان : 40 ] .
ووصفت قرى قوم لوط ب { المؤتفكات } جمع مؤتفكة اسم فاعل ائتفك مُطاوع أفَكَه ، إذا قلَبَه ، فهي المنقلبات ، أي قلبها قالب ، أي خسف بها قال تعالى : { جعلنا عاليها سافلها } [ هود : 82 ] .
والخاطئة : إمّا مصدر بوزن فاعلة وهاؤه هاء المرة الواحدة فلما استعمل مصدراً قطع النظر عن المرة ، كما تقدم في قوله : { الحاقة } [ الحاقة : 1 ] فهو مصدر خَطِىءَ ، إذا أذنب . والذنب : الخِطْء بكسر الخاء ، وإِما اسم فاعل خَطِىءَ وتأنيثه بتأويل : الفعلة ذات الخِطْء فهاؤه هاء تأنيث .
والتعريف فيه تعريف الجنس على كلا الوجهين ، فالمعنى : جاء كل منهم بالذنب المستحق للعقاب . وفرع عنه تفصيل ذنبهم المعبر عنه بالخَاطئة فقال { فعصوا رسول ربّهم } وهذا التفريع للتفصيل نظير التفريع في قوله : { كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر } [ القمر : 9 ] في أنه تفريع بيان على المبيَّن .