و { ذَلِكَ } الذي بين لكم من عظمته وصفاته ، ما بيَّن { بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } في ذاته وفي صفاته ، ودينه حق ، ورسله حق ، ووعده حق ، ووعيده حق ، وعبادته هي الحق .
{ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ } في ذاته وصفاته ، فلولا إيجاد اللّه له لما وجد ، ولولا إمداده لَمَا بَقِيَ ، فإذا كان باطلا ، كانت عبادته أبطل وأبطل .
{ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ } بذاته ، فوق جميع مخلوقاته ، الذي علت صفاته ، أن يقاس بها صفات أحد من الخلق ، وعلا على الخلق فقهرهم { الْكَبِيرُ } الذي له الكبرياء في ذاته وصفاته ، وله الكبرياء في قلوب أهل السماء والأرض .
واسم الإِشارة فى قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق . . . } يعود إلى ما تقدم ذكره من إيلاج الليل فى النهار ، وتسخير الشمس والقمر . وهو مبتدأ . وقوله { بِأَنَّ الله هُوَ الحق } خبره والباء للسببية . أى : ذلك الذى فعلناه سببه ، أن الله - تعالى - هو الإِله الحق ، الذى لا إله سواه ، وأن ما يدعون من دونه من آلهة أخرى هو { الباطل } الذى لا يصح أن يسمى بهذا الاسم ، لأنه مخلوق زائل متغير ، لا يضر ولا ينفع .
ثم يعقب على هذه الحقائق الثلاث بالحقيقة الكبرى التي تقوم عليها الحقائق جميعا . الحقيقة الأولى التي تنبثق منها الحقائق جميعا . وهي الحقيقة التي تعالجها الجولة ؛ وتقدم لها بهذا الدليل :
ذلك بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه الباطل ، وأن الله هو العلي الكبير . .
ذلك . . ذلك النظام الكوني الثابت الدائم المنسق الدقيق . . ذلك النظام قائم بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل . قائم بهذه الحقيقة الكبرى التي تعتمد عليها كل حقيقة ، والتي يقوم بها هذا الوجود . فكون الله هو الحق . سبحانه . هو الذي يقيم هذا الكون ، وهو الذي يحفظه ، وهو الذي يدبره ، وهو الذي يضمن له الثبات والاستقرار والتماسك والتناسق ، ما شاء الله له أن يكون . .
( ذلك بأن الله هو الحق ) . . كل شيء غيره يتبدل . ولك شيء غيره يتحول . وكل شيء غيره تلحقه الزيادة والنقصان ، وتتعاوره القوة والضعف ، والازدهار والذبول ، والإقبال والإدبار . وكل شيء غيره يوجد بعد أن لم يكن ، ويزول بعد أن يكون . وهو وحده - سبحانه - الدائم الباقي الذي لا يتغير ولا يتبدل ولا يحول ولا يزول . .
ثم تبقى في النفس بقية من قوله تعالى : ( ذلك بأن الله هو الحق ) . . بقية لا تنقلها الألفاظ ولا يستقل بها التعبير البشري الذي أملك . بقية يتمثلها القلب ويستشعرها الضمير ؛ و يحسها الكيان الإنساني كله ويقصر عنها التعبير ! . . وكذلك : ( وأن الله هو العلي الكبير ) . . الذي ليس غيره( علي )ولا( كبير ) ! ! ! ترى قلت شيئا يفصح عما يخالج كياني كله أمام التعبير القرآني العجيب ? أحس أن كل تعبير بشري عن مثل هذه الحقائق العليا ينقص منها ولا يزيد ؛ وأن التعبير القرآني - كما هو - هو وحده التعبير الموحي الفريد ! ! !
ويعقب السياق على ذلك المشهد الكوني ، وهذه اللمسة الوجدانية ، بمشهد آخر من مألوف حياة البشر . مشهد الفلك تجري في البحر بفضل الله . ويقفهم في هذا المشهد أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر وخطره ، مجردة من القوة والبأس والبطر والغرور :
وقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ } أي : إنما يظهر لكم آياته لتستدلوا بها على أنه الحق ، أي : الموجود الحق ، الإله الحق ، وأن كل ما سواه باطل فإنه الغني عما سواه ، وكل شيء فقير إليه ؛ لأن كل ما{[22987]} في السموات والأرض الجميع خلقه وعبيده ، لا يقدر أحد منهم على تحريك ذَرّة إلا بإذنه ، ولو اجتمع كل أهل الأرض على أن يخلقوا ذبابا لعجزوا عن ذلك ؛ ولهذا قال : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } أي : العلي : الذي لا أعلى منه ، الكبير : الذي هو أكبر من كل شيء ، فكل{[22988]} شيء خاضع حقير بالنسبة إليه .
القول في تأويل قوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ هُوَ الْحَقّ وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنّ اللّهَ هُوَ الْعَلِيّ الْكَبِيرُ } .
يقول تعالى ذكره : هذا الذي أخبرتك يا محمد أن الله فعله من إيلاجه الليل في النهار ، والنهار في الليل ، وغير ذلك من عظيم قُدرته ، إنما فعله بأنه الله حقا ، دون ما يدعوه هؤلاء المشركون به ، وأنه لا يقدر على فعل ذلك سواه ، ولا تصلح الألوهة إلاّ لمن فعل ذلك بقُدرته . وقوله : وأنّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الباطِلُ يقول تعالى ذكره : وبأن الذي يعبد هؤلاء المشركون من دون الله الباطل الذي يضمحلّ ، فيبيد ويفني وأنّ اللّهَ هُوَ العَلِيّ الكَبِيرُ يقول تعالى ذكره : وبأن الله هو العليّ ، يقول : ذو العلوّ على كلّ شيء ، وكلّ ما دونه فله متذلل منقاد ، الكبير الذي كل شيء دونه ، فله متصاغر .
وقوله تعالى : { ذلك بأن الله هو الحق } الإشارة ب { ذلك } إلى هذه العبرة وما جرى مجراها ، ومعنى { هو الحق } أي صفة الألوهية له حق ، فيحسن في القول تقدير ذو ، وذلك الباب متى أخبر بمصدر عن عين فالتقدير ذو كذا وحق مصدر منه قول الشاعر :
فإنما هي إقبال وإدبار{[9387]} . . . وهذا كثير ومتى قلت كذا وكذا حق فإنما معناه اتصاف كذا بكذا حق ، وقوله { وأن ما تدعون من دونه } يصح أن يريد الأصنام وتكون بمعنى الذي ويكون الإخبار عنها ب { الباطل } على نحو ما قدمناه في { الحق } ، ويصح أن تكون { ما } مصدرية كأنه قال وأن دعاءكم من دونه آلهة الباطل أي الفعل الذي لا يؤدي إلى الغاية المطلوبة به ، وقرأ الجمهور «تدعون » بالتاء من فوق ، وقرأ «يدعون » بالياء ابن وثاب والأعمش وأهل مكة ورويت عن أبي عمرو ، وباقي الآية بين .
كاف الخطاب المتصلُ باسم الإشارة موجه إلى غير معين ، والمقصود به المشركون بقرينة قوله { وأن ما تدعون من دونه الباطل } بتاء الخطاب في قراءة نافع وابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم . والمشار إليه هو المذكور آنفاً وهو الإيلاج والتسخير . وموقع هذه الجملة موقع النتيجة من الدليل فلها حكم بدل الاشتمال ولذلك فصلت ولم تعطف فإنهم معترفون بأن الله هو فاعل ذلك فلزمهم الدليل ونتيجته .
والمعنى : أن إيلاج الليل في النهار وعكسه وتسخير الشمس والقمر مُسبب عن انفراد الله تعالى بالإلهية ، فالباء للسببية ، وهو ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة . وضمير الفصل مفيد للاختصاص ، أي : هو الحق لا أصنامكم ولا غيرها مما يُدّعى إلهية غيره تعالى .
و { الحق } : هنا بمعنى الثابت ، ويفهم أن المراد حقية ثبوت إلهيته بقرينة السياق ولمقابلته بقوله { وأن ما تدعون من دونه الباطل ، } والمعنى : لما كان ذلك الصنع البديع مسبباً عن انفراد الله بالإلهية كان ذلك أيضاً دليلاً على انفراد الله بالإلهية للتلازم بين السبب والمسبب . والتعريف في { الحق } و { الباطل } تعريف الجنس . وإنما لم يؤت بضمير الفصل في الشق الثاني لأن ما يدعونه من دون الله من أصنامهم يشترك معها في أنه باطل . وذكر ضمير الفصل في نظيره من سورة الحج ( 73 ) لاقتضاء المقام ذلك كما تقدم .
والظاهر أنا إذا جعلنا الباء في { بأن الله هو الحق } باء السببية أن يكون قوله { وأن ما تدعون من دونه الباطل } عطفاً على الخبر وهو مجموع { بأن الله . } فالتقدير : ذلك أن ما تدعون من دونه الباطل . ويقدر حرف جر مناسب للمعنى حُذف قبل { أنّ } وهو حرف ( على ) أي : ذلك دال . وهذا كما قدر حرف ( عن ) في قوله تعالى : { وترغبون أن تنكِحوهن } [ النساء : 127 ] ولا يكون عطفاً على مدخول باء السببية إذ ليس لبطلان آلهتهم أثر في إيلاج الليل في النهار وتسخير الشمس والقمر ، أو تقدر لام العلة ، أي ذلك ، لأن ما تدعونه باطل ؛ فلذلك لم يكن لها حظ في إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر باعتراف المشركين . وقوله { وأن الله هو العلي الكبير } واقع موقع الفذلكة لما تقدم من دلالة إيلاج الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر لأنه إذا استقر أنَّ ما ذُكر دال على أن الله هو الحق بالإلهية ، ودال على أن ما يدعونه باطل ، ثبت أنه العلي الكبير دون أصنامهم . وقد اجتلب ضمير الفصل هنا للدلالة على الاختصاص وسلب العلو والعظمة عن أصنامهم .
والأحسن أن نجعل الباء للملابسة أو المصاحبة وهي ظرف مستقر خبر عن اسم الإشارة ، فإن شأن الباء التي للملابسة أن تكون ظرفاً مستقراً بل قال الرضِيُّ : إنها لا تكون إلاّ كذلك ، أي أنها لا تتعلق إلا بنحو الخبر أو الحال كما قال :
أي : حالة كوني ملابساً حمد الله ، أي : غير ساخط من قضائه ، ويقال : أنت بخير النظرين ، أي : مستقر . فالتقدير : ذلك المذكور من الإيلاج والتسخير ملابس لحقيَّة إلهية الله تعالى ، ويكون المعطوفان معطوفين على المجرور بالباء ، أي ملابس لكون الله إلهاً حقاً ، ولكون ما تدعون من دونه باطل الإلهية ولكون الله هو العلي الكبير . والملابسة المفادة بالباء هي ملابسة الدليل للمدلول وبذلك يستقيم النظم بدون تكلف ، ويزداد وقوع جملة { ذلك بأن الله هو الحق } إلى آخرها في موقع النتيجة وضوحاً .
وضمير الفصل في قوله { وأن الله هو العلي الكبير } للاختصاص كما تقدم في قوله : { إن الله هو الغني الحميد } [ لقمان : 26 ] .
و { العلي } : صفة مشتقة من العلوّ المعنويّ المجازي وهو القدسية والشرف .
والكبير : وصف مشتق من الكِبَر المجازي وهو عظمة الشأن . وتقدم نظير هذه الآية في سورة الحج ( 63 ) مع زيادة ضمير الفصل في قوله { وأن ما تدعون من دونه هو الباطل } .