ومن العجب أيضا ، قياسهم قدرة رب الأرض والسماوات ، على قدرة الآدمي الناقص من جميع الوجوه ، فقالوا استبعادا وإنكارا : { أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ } ولما كان هذا منتهى ما عندهم ، وغاية ما لديهم ، أمر اللّه رسوله أن يجيبهم بجواب مشتمل على ترهيبهم{[760]} .
{ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ . أَوَ آبَآؤُنَا الأولون } .
أى : أنهم لم يكتفوا بقولهم : إن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم سحر واضح ، بل أضافوا إلى ذلك على سبيل المبالغة فى الإِنكار لما جاءهم به قولهم : أئذا متنا وانتهت حياتنا ووضعنا فى قبورنا ، وصرنا تراباً وعظاما أئنا لمبعوثون ومعادون إلى الحياة مرة أخرى ؟ وهل آباؤنا الأولون الذين صاروا من قبلنا عظاما ورفاتا يبعثون أيضاً ؟
ولا شك أن قولهم هذا دليل واضح على انطماس بصائرهم ، وعلى شدة غفلتهم عن آثار قدرة الله - تعالى - التى لا يعجزها شئ . والتى من آثارها إيجادهم من العدم .
ولذا لقن الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم الجواب الذى يخرس ألسنتهم فقال : { قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } .
ومن ذلك وصفهم القرآن بأنه سحر ، وعجبهم مما يعدهم به من البعث :
وقالوا : إن هذا إلا سحر مبين . أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون ? أو آباؤنا الأولون ? . .
لقد غفلوا عن آثار قدرة الله فيما حولهم ، وفي ذات أنفسهم . غفلوا عن آثار هذه القدرة في خلق السماوات والأرض وما بينهما ؛ وفي خلق الكواكب والشهب ؛ وفي خلق الملائكة والشياطين ؛ وفي خلقهم هم أنفسهم من طين لازب . . غفلوا عن آثار القدرة في هذا كله ووقفوا يستبعدون على هذه القدرة أن تعيدهم إذا ماتوا وصاروا تراباً وعظاماً ، هم وآباءهم الأولين ! وما في هذا البعث والإعادة من غريب على تلك القدرة ولا بعيد ؛ لمن يتأمل هذا الواقع ويتدبره أقل تدبر ؛ في ضوء هذه المشاهدات التي تحيط بهم في الآفاق وفي أنفسهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالُوَاْ إِن هََذَآ إِلاّ سِحْرٌ مّبِينٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأوّلُونَ * قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ * فَإِنّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وقال هؤلاء المشركون من قُرَيش بالله لمحمد صلى الله عليه وسلم : ما هذا الذي جئتنا به إلاّ سحرٌ مبين . يقول : يبين لمن تأمله ورآه أنه سحر أئِذَا مِتْنا وكُنّا تُرَابا وَعِظاما أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ يقولون ، منكرين بعث الله إياهم بعد بلائهم : أئنا لمبعوثون أحياء من قبورنا بعد مماتنا ، ومصيرنا ترابا وعظاما ، قد ذهب عنها اللحوم أوَ آباؤُنا الاوّلُونَ الذين مضوا من قبلنا ، فبادوا وهلكوا ؟ يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء : نعم أنتم مبعوثون بعد مصيركم ترابا وعظاما أحياء كما كنتم قبل مماتكم ، وأنتم داخرون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أئِذَا مِتْنا وكُنّا تُرَابا وَعِظاما أئِنّا لَمَبْعُوثُونَ أو آباؤُنا الأوّلُونَ تكذيبا بالبعث قُلْ نَعَمْ وأنْتُمْ داخِرُونَ .
وقوله : وأنْتُم داخِرُونَ يقول تعالى ذكره : وأنتم صاغرون أشدّ الصّغَر من قولهم : صاغر داخر . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وأنْتُمْ داخِرُونَ : أي صاغرون .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : وأنْتُم دَاخِرُونَ قال : صاغرون .
وقرأ «مُتنا » بضم الميم أبو جعفر وابن أبي إسحاق وعاصم{[5]} وأبو عمرو والعامة ، وقرأ بكسر الميم الحسن والأعرج وشيبة ونافع .
وقد تقدم غير مرة ذكر القراءات في قوله { أئذا } على الخبر والاستفهام وما يلحقها من مد وتركه وإظهار همز وتسهيله .
والاستفهام في قوله : أإذا متنا } إنكاري كما تقدم فلذلك كان قوله تعالى : { قُلْ نَعَمْ } جواباً لقولهم { أءِذَا مِتْنَا } على طريقة الأسلوب الحكيم بصرف قصدهم من الاستفهام إلى ظاهر الاستفهام فجعلوا كالسائلين : أيبعثون ؟ فقيل لهم : نعم ، تقريراً للبعث المستفهم عنه ، أي نعم تبعثون . وجيء ب { قل } غير معطوف لأنه جار على طريقة الاستعمال في حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى : { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } في سورة [ البقرة : 30 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.