ثم ساق - سبحانه - ستة أدلة على وحدانيته ، وكمال قدرته ، وجلال عظمته . ويتمثل الدليل الأول في قوله - تعالى - : { إِنَّ فِي السماوات والأرض لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } أي : إن في خلق هذه السماوات المزينة بالمصابيح ، والتي لا ترى فيه من تفاوت ، والمرفوعة بغير عمد . . وفي خلق الأرض الممهدة المفروشة المثبتة بالجبال . . في كل ذلك لبراهين ساطعة للمؤمنين ، على أن الخالق لهما هو الله - تعالى - وحده ، المستحق للعبادة والطاعة .
فالمراد بقوله - تعالى - : { إِنَّ فِي السماوات والأرض } أي : إن في خلقهما ، كما صرح - سبحانه - بذلك في آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } والمراد بالآيات : الدلائل والبراهين الدالة على قدرته - سبحانه - ووحدانيته .
وقبل أن يعرض للقوم وموقفهم من هذا الكتاب ؛ يشير إلى آيات الله المبثوثة في الكون من حولهم . وقد كانت وحدها كفيلة بتوجيههم إلى الإيمان . ويوجه قلوبهم إليها لعلها توقظها وتفتح مغاليقها ، وتستجيش فيها الحساسية بالله منزل هذا الكتاب ، وخالق هذا الكون العظيم :
( إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين ) . .
والآيات المبثوثة في السماوات والأرض لا تقتصر على شيء دون شيء ، ولا حال دون حال . فحيثما مد الإنسان ببصره وجد آيات الله تطالعه في هذا الكون العجيب . .
هذه السماوات بأجرامها الضخمة ، وأفلاكها الهائلة ، وهي - على ضخامتها - مبعثرة كالنثار الصغير في الفضاء . . الفضاء الهائل الرهيب . . الجميل . . !
ودورة هذه الأجرام في أفلاكها في دقة واطراد وتناسق . . تناسق جميل لا تشبع العين من النظر إليه ، ولا يشبع القلب من تمليه !
وهذه الأرض الواسعة العريضة بالقياس إلى البشر ، وهي ذرة ، أو هباءة بالقياس إلى النجوم الكبيرة . ثم بالقياس إلى هذا الفضاء الذي تتوه فيه . . تتوه لولا القدرة التي تمسك بها وتنتظمها في العقد الكوني الذي لا يتوه شيء فيه !
وما أودعه الله طبيعة هذه الأرض في موقعها الكوني الخاص من صلاحية لنشوء الحياة فوقها ، ومن خصائص دقيقة مقصودة متراكبة متجمعة متناسقة . لو اختلت خصيصة واحدة منها أو تخلفت ما أمكن أن تقوم فيها الحياة أو تدوم !
وكل شيء في هذه الأرض وكل حي . . آية . . وكل جزء من كل شيء ومن كل حي في هذه الأرض . . آية . . والصغير الدقيق كالضخم الكبير . . آية . . هذه الورقة الصغيرة في هذه الشجرة الضخمة أو النبتة الهزيلة . . آية . . آية في شكلها وحجمها ، آية في لونها وملمسها . آية في وظيفتها وتركيبها . وهذه الشعرة في جسم الحيوان أو الإنسان . . آية . . آية في خصائصها ولونها وحجمها . وهذه الريشة في جناح الطائر . . آية . . آية في مادتها وتنسيقها ووظيفتها . وحيثما مد الإنسان ببصره في الأرض أو في السماء تزاحمت الآيات وتراكبت ، وأعلنت عن نفسها لقلبه وسمعه وبصره .
ولكن ، من الذي يرى هذه الآيات ويستشعرها ? لمن تعلن هذه الآيات عن نفسها ? لمن ?
فالإيمان هو الذي يفتح القلوب لتلقي الأصداء والأضواء والأنداء ؛ والإحساس بما فيها من آيات الله المبثوثة في الأرض والسماء . والإيمان هو الذي تخالط القلوب بشاشته فتحيا وترق وتلطف ؛ وتلتقط ما يذخر به الكون من إيحاءات خفية وظاهرة ، تشير كلها إلى اليد الصانعة ، وطابعها المميز في كل ما تصوغه وتبدعه من أشياء ومن أحياء . وكل ما خرج من هذه اليد فهو خارق معجز لا يقدر على إبداعه أحد من خلق الله .
يُرشد تعالى خلقه إلى التفكر في آلائه ونعمه ، وقدرته العظيمة التي خلق بها السموات الأرض ، وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع من الملائكة والجن والإنس ، والدواب والطيور والوحوش والسباع والحشرات ، وما في البحر من الأصناف المتنوعة ، واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران ، هذا بظلامه وهذا بضيائه ، وما أنزل الله تعالى من السحاب من المطر في وقت الحاجة إليه ، وسماه رزقًا ؛ لأن به يحصل الرزق ، { فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا } أي : بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء .
وقوله : { وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ } أي : جنوبا وشآما{[26302]} ، ودبورًا وصبًا ، بحرية وبرية ، ليلية ونهارية . ومنها ما هو للمطر ، ومنها ما هو للقاح ، ومنها ما هو غذاء للأرواح ، ومنها ما هو عقيم [ لا ينتج ] {[26303]} .
وقال أولا { لآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ } {[26304]} ، ثم { يوقنون } ثم { يعقلون } وهو تَرَقٍّ من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى . وهذه الآيات شبيهة بآية " البقرة " وهي قوله : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] . وقد أورد ابن أبي حاتم هاهنا عن وهب بن مُنَبِّه أثرا طويلا غريبًا في خلق الإنسان من الأخلاط الأربعة .
موقع هذا الكلام موقع تفصيل المجمل لما جمعته جملة { تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } [ الجاثية : 2 ] باعتبار أن آيات السماوات والأرض وما عطف عليها إنما كانت آيات للمؤمنين الموقنين ، وللذين حصل لهم العلم بسبب ما ذكرهم به القرآن ، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى : { تلك آيات الله نتلوها عليك } [ الجاثية : 6 ] .
وأكد ب { إنَّ } وإن كان المخاطبون غير منكريه لتنزيلهم منزلة المنكر لذلك بسبب عدم انتفاعهم بما في هذه الكائنات من دلالة على وحدانية الله تعالى وإلا فقد قال الله تعالى : { ولئن سألتهم من خَلَق السماوات والأرض ليقولُن خلقهنّ العزيز العليم } في سورة الزّخرف ( 9 ) .
والخطاب موجه إلى المشركين ولذلك قال : لآيات للمؤمنين } وقال : { آيات لقوم يوقنون } دون أن يقال : لآيات لكم أو آيات لكم ، أي هي آيات لمن يعلمون دلالتها من المؤمنين ومن الذين يوقنون إشارة إلى أن تلك الآيات لا أثر لها في نفوس من هم بخلاف ذلك . والمراد بكون الآيات في السماوات والأرض أن ذات السماوات والأرض وعداد صفاتها دلائل على الوحدانية فجعلت السماوات والأرض بمنزلة الظرف لما أودعته من الآيات لأنها ملازمة لها بأدنى نظر وجعلت الآيات للمؤمنين لأنهم الذين انتفعوا بدلالتها وعلموا منها أن موجدها ومقدر نظامها واحد لا شريك له .