{ فَذَلِكُمُ ْ } الذي وصف نفسه بما وصفها به { اللَّهُ رَبُّكُمْ ْ } أي : المألوه المعبود المحمود ، المربي جميع الخلق بالنعم وهو : { الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ْ }
فإنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير لجميع الأشياء ، الذي ما بالعباد من نعمة إلا منه ، ولا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يدفع السيئات إلا هو ، ذو الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العظيمة والجلال والإكرام .
{ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ْ } عن عبادة من هذا وصفه ، إلى عبادة الذي ليس له من وجوده إلا العدم ، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا ، ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا .
فليس له من الملك مثقال ذرة ، ولا شركة له بوجه من الوجوه ، ولا يشفع عند الله إلا بإذنه ، فتبا لمن أشرك به ، وويحًا لمن كفر به ، لقد عدموا عقولهم ، بعد أن عدموا أديانهم ، بل فقدوا دنياهم وأخراهم . ولهذا قال تعالى عنهم : { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا . . .
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى الطريق القويم لو كانوا يعقلون فقال : { فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق .
أى : فذلكم الذي فعل ما فعل من رزقكم ومن تدبير أمركم ، هو الله المربي لكم بنعمه ، وهو الذي لا تحق العبودية والألوهية إلا له وحده .
إذا كان الأمر كذلك { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } أي لا يوجد غير الحق شيء يتبع سوى الضلال ، فمن ترك الحق وهو عبادة الله وحده ، فقد وقع في الباطل والضلال وهو عبادة غيره من الآلهة الأخرى .
قال القرطبي : " ثبت عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل قال : " اللهم لك الحمد " الحديث ، وفى ه : أنت الحق ، ووعدك الحق ، وقولك الحق ، ولقاؤك الحق ، والجنة حق والنار حق ، والنبيون حق ، ومحمد حق . . . " .
فقوله : أنت الحق ، أي الواجب الوجود ، وأصله من حق الشيء إذا ثبت ووجب - وهذا الوصف لله - تعالى - بالحقيقة ، إذ وجوده بنفسه لم يسبقه عدم ولا يلحقه عدم ، وما عداه مما يقال عليه هذا الاسم مسبوق بعدم ، ويجوز عليه لحاق العدم ، ووجوده من موجده لا من نفسه .
ومقابلة الحق بالضلال عرف لغة وشرعاً كما في هذه الآية . . والضلال حقيقته الذهاب عن الحق مأخذو من ضلال الطريق ، وهو العدول عن سمته ، يقال : " ضل الطريق وأضل الشيء إذا أضاعه . . "
وقوله : { فأنى تُصْرَفُونَ } أى : فكيف تصرفون وتتحولون عن الحق إلى الضلال ، بعد اعترافكم وإقراركم بأن خالقكم ورازقكم ومدبر أمركم هو الله - تعالى - وحده .
فأني هنا بمعنى كيف ، والاستفهام لإِنكار واقعهم المخزي واستبعاده والتعجب منه .
ومن الأحكام التي تؤخذ من هذه الآية الكريمة : أن الحق والباطل ، والهدى والضلال ، نقيضان لا يجتمعان ، لأن النقيضين يمتنع أن يكونا حقين وأن يكونا باطلين في وقت واحد متى ثبت أن أحدهما هو الحق ، وجب أن يكون الآخر هو الباطل .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمُ الْحَقّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقّ إِلاّ الضّلاَلُ فَأَنّىَ تُصْرَفُونَ } .
يقول تعالى ذكره لخلقه : أيها الناس ، فهذا الذي يفعل هذه الأفعال ، فيرزقكم من السماء والأرض ويملك السمع والأبصار ، ويخرج الحيّ من الميت والميت من الحيّ ، ويدبّر الأمر اللّهُ رَبّكُمُ الحَقّ لا شكّ فيه . فَمَاذا بَعْدَ الحَقّ إلاّ الضّلالُ يقول : فأيّ شيء سوى الحقّ إلا الضلال وهو الجور عن قصد السبيل . يقول : فإذا كان الحقّ هو ذا ، فادّعاؤكم غيره إلها ورَبّا هو الضلال والذهاب عن الحقّ لا شكّ فيه . فَأنّىَ تُصْرَفُونَ يقول : فأيّ وجه عن الهدى والحقّ تصرفون وسواهما تسلكون وأنتم مقرّون بأن الذي تصرفون عنه هو الحقّ .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.