وهذا عموم ، ثم خصص من ذلك أشرف العبادات فقال : { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي } أي : ذبحي ، وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما ، ودلالتهما على محبة الله تعالى ، وإخلاص الدين له ، والتقرب إليه بالقلب واللسان ، والجوارح وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال ، لما هو أحب إليها وهو الله تعالى .
ومن أخلص في صلاته ونسكه ، استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله . وقوله : { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أي : ما آتيه في حياتي ، وما يجريه الله عليَّ ، وما يقدر عليَّ في مماتي ، الجميع { لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
ثم قل لهم للمرة الثانية : إن صلاتى التى أتوجه بها إلى ربى { وَنُسُكِي } أى عبادتى وتقربى إليه - وهو من عطف العام على الخاص - وقيل المراد به ذبائح الحج والعمرة . { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أى : ما أعمله فى حياتى من أعمال وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح .
كل ذلك { للَّهِ رَبِّ العالمين } فأنا متجرد تجرداً كاملا لخالقى ورازقى بكل خالجة فى القلب ، وبكل حكة فى هذه الحياة .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ إِنّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوّلُ الْمُسْلِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، الذين يسألونك أن تتّبع أهواءهم على الباطل من عبادة الاَلهة والأوثان : إنّ صَلاتي ونُسُكي يقول : وذبحي . وَمحْيايَ يقول : وحياتي . وَمَماتِي يقول : ووفاتي . لِلّهِ رَبّ العالَمِينَ يعني أن ذلك كله له خالصا دون ما أشركتم به أيها المشركون من الأوثان . لا شَرِيكَ لَهُ في شَيْءٍ من ذلك من خلقه ، ولا لشيء منهم فيه نصيب ، لأنه لا ينبغي أن يكون ذلك إلا له خالصا . وبذلكَ أُمِرْتُ يقول : وبذلك أمرني ربي . وأنا أوّلُ المُسْلِمِينَ يقول : وأنا أوّل من أقرّ وأذعن وخضع من هذه الأمة لربه ، بأن ذلك كذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال : النسك في هذا الموضع : الذبح :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد : إنّ صَلاتي ونُسُكي قال : النسك : الذبائح في الحجّ والعُمرة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : ونُسُكي : ذبيحتي في الحجّ والعُمرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : ونُسُكي : ذبيحتي في الحجّ والعُمرة .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، وليس بابن أبي خالد ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : صَلاتِي ونُسُكي قال : ذبحي .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن إسماعيل ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : صَلاتي ونُسُكي قال : ذبيحتي .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن جبير ، قال ابن مهدي : لا أدري من إسماعيل هذا . صَلاتِي ونَسُكي قال : صلاتي وذبيحتي .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا الثوريّ ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : صَلاتي ونُسُكي قال : وذبيحتي .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ونُسُكي قال ذبحي .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ونُسُكي قال : ذبيحتي .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : صَلاتي ونُسُكي قال : الصلاة : الصلاة ، والنسك : الذبح .
وأما قوله : وأنا أوّلُ المُسْلِمِينَ فإن :
محمد بن عبد الأعلى حدثنا ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن قتادة وأنا أوّلُ المُسْلِمِينَ قال : أوّل المسلمين من هذه الأمة .
وقوله { قل إن صلاتي } الآية ، أمر من الله عز وجل أن يعلن بأن مقصده في صلاته وطاعته من ذبيحة وغيرها وتصرفه مدة حياته وحاله من الإخلاص والإيمان عند مماته إنما هو لله عز وجل وإرادة وجهه طلب رضاه ، وفي إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة ما يلزم المؤمنين التأسي به حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قصد وجه الله عز وجل ، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة أن صلاته ونسكه وحياته وموته بيد الله عز وجل يصرفه في جميع ذلك كيف شاء وأنه قد هداه من ذلك إلى صراط مستقيم ، ويكون قوله { بذلك أمرت } على هذا التأويل راجعاً إلى قوله { لا شريك له } فقط أو راجعاً إلى القول الأول وعلى التأويل الأول يرجع على جميع ما ذكر من صلاة وغيرها ، أي أمرت بأن أقصد وجه الله عز وجل في ذلك وأن التزم العمل ، وقرأ جمهور الناس «ونسُكي » بضم السين ، وقرأ أبو حيوة والحسن بإسكان السين ، وقالت فرقة «النسك » في هذه الآية الذبائح .
قال القاضي أبو محمد : ويحسن تخصيص الذبيحة بالذكر في هذه الآية أنها نازلة قد تقدم ذكرها والجدل فيها في السورة ، وقالت فرقة : «النسك » في هذه الآية جميع أعمال الطاعات من قولك نسك فلان فهو ناسك إذا تعبد{[5181]} ، وقرأ السبعة سوى نافع و «محيايَ ومماتي » بفتح الياء من «محياي » وسكونها من «مماتي » وقرأ نافع وحده و «محياي » بسكون الياء من «محياي » ، قال أبو علي الفارسي وهي شاذة في القياس لأنها جمعت بين ساكنين ، وشاذة في الاستعمال ووجهها أنه قد سمع من العرب التقت حلقتا البطان{[5182]} ولفلان ثلثا المال{[5183]} ، وروى أبو خليد عن نافع و «محيايِ » بكسر الياء ، وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى والجحدري و «محيي » ، وهذه لغة هذيل ومنه قول أبي ذؤيب :
سبقوا هويَّ وأعنقوا لهواهم . . . فتصرعوا ولكل جنب مصرع{[5184]}
وقرأ عيسى بن عمر «صلاتيَ ونسكيَ ومحيايَ ومماتيَ » بفتح الياء فيهن ، وروي ذلك عن عاصم .