القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ رَبّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىَ قَالُوَاْ إِنّا مُهْلِكُوَ أَهْلِ هََذِهِ الْقَرْيَةِ إِنّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : وَلما جاءَتْ رُسُلُنا إبْراهِيمَ بالبُشْرَى من الله بإسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب ، قالُوا إنّا مُهْلِكُوا أهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ يقول : قالت رسل الله لإبراهيم : إنا مهلكو أهل هذه القرية ، قرية سَدُوم ، وهي قرية قوم لوط إنّ أهْلَها كانُوا ظالِمِينَ يقول : إن أهلها كانوا ظالمي أنفسهم بمعصيتهم الله ، وتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ولَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إبْرَاهِيمَ بالبُشْرَى . . . إلى قوله نَحْنُ أعْلَمُ بِمَنْ فِيها قال : فجادل إبراهيم الملائكة في قوم لوط أن يتركوا ، قال : فقال أرأيتم إن كان فيها عشرة أبيات من المسلمين أتتركونهم ؟ فقالت الملائكة : ليس فيها عشرة أبيات ، ولا خمسة ، ولا أربعة ، ولا ثلاثة ، ولا اثنان قال : فحَزِن على لوط وأهل بيته ، فقال إنّ فِيها لُوطا ، قالُوا نَحْنُ أعْلَمُ بِمَنْ فِيها ، لَنُنَجّيَنّه وأهْلَهُ ، إلاّ امْرأتَهُ كانَتْ مِنَ الغابِرِينَ فذلك قوله : يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ ، إنّ إبْرَاهِيم لَحَلِيمٌ أوّاهٌ مُنِيبٌ . فقالت الملائكة : يا إبْرَاهِيمُ أعْرِضْ عَنْ هَذَا ، إنّهُ قَدْ جاءَ أمْرُ رَبّكَ ، وإنّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غيرُ مَرْدودٍ فبعث الله إليهم جبرائيل صلى الله عليه وسلم ، فانتسف المدينة وما فيها بأحد جناحية ، فجعل عاليها سافلها ، وتتبعهم بالحجارة بكل أرض .
{ لما } أداة تدل على التوقيت ، والأصل أنها ظرفٌ ملازم الإضافة إلى جملة . ومدلولها وجود لوجود ، أي وجود مضمون الجملة التي تضاف إليها عند وجود الجملة التي تتعلق بها فهي تستلزم جملتين : أولاهما فعلية ماضوية وتضاف إليها { لما } ، والثانية فعلية أو اسمية مشتملة على ما يصلح لأن يتعلق به الظرف من فعل أو اسم مشتق ، ويطلق على الجملة الثانية الواقعة بعد { لما } اسم الجزاء تسامحاً .
ولما كانت { لما } ظرفاً مبهماً تعين أن يكون مضمون الجملة التي تضاف إليها { لما } معلوماً للسامع ، إذ التوقيت الإعلام بمقارنة زمن مجهول بزمن معلوم . فوجود { لما } هنا يقتضي أن مجيء الملائكة بالبشرى أمر معلوم للسامع مع أنه لم يتقدم ذكر للبشرى ، فتعين أن يكون التعريف في البشرى تعريف العهد لاقتضاء { لما } أن تكون معلومة ، فالبشرى هي ما دل عليه قوله تعالى آنفاً { ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوءة والكتاب } [ العنكبوت : 27 ] كما تقدم بيانه .
والبشرى : اسم للبشارة وهي الإخبار بما فيه مسرة للمخبر بفتح الباء وتقدم ذكر البشارة عند قوله تعالى { إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً } في سورة البقرة ( 119 ) .
ومن لطف الله بإبراهيم أن قدّم له البشرى قبل إعلامه بإهلاك قوم لوط لعلمه تعالى بحلم إبراهيم . والمعنى : قالوا لإبراهيم إنا مهلكوا أهل هذه القرية الخ .
والقرية هي ( سدوم ) قرية قوم لوط . وقد تقدم ذكرها في سورة الأعراف .
وجملة { إن أهلها كانوا ظالمين } تعليل للإهلاك وقصد به استئناس إبراهيم لقبول هذا الخبر المحزن ، وأيضاً لأن العدل يقتضي أن لا يكون العقاب إلا على ذنب يقتضيه .
والظلم : ظلمهم أنفسهم بالكفر والفواحش ، وظلمهم الناس بالغصب على الفواحش والتدرب بها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ولما جاءت رسلنا} يعني الملائكة، {إبراهيم بالبشرى} بالولد، {قالوا} لإبراهيم: {إنا مهلكو أهل هذه القرية}، يعنون قرية لوط، {إن أهلها كانوا ظالمين}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"وَلما جاءَتْ رُسُلُنا إبْراهِيمَ بالبُشْرَى" من الله بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، "قالُوا إنّا مُهْلِكُوا أهْلِ هَذِهِ القَرْيَةِ "يقول: قالت رسل الله لإبراهيم: إنا مهلكو أهل هذه القرية، قرية سَدُوم، وهي قرية قوم لوط، "إنّ أهْلَها كانُوا ظالِمِينَ" يقول: إن أهلها كانوا ظالمي أنفسهم بمعصيتهم الله، وتكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى} بشارة بالولد في كبر سنه وسن زوجته ما لم يطمع من أمثالهما الولد إذا بلغوا ذلك الوقت، وهو ما ذكر: {فبشرناها بإسحاق} [هود: 71]، ويحتمل غيره.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى أنه لما جاء إبراهيم رسل الله، وهم من الملائكة بالبشرى يبشرونه بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، والبشرى: البيان، وهو الخبر بما يظهر سروره في بشرة الوجه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَانُواْ ظالمين} معناه أنّ الظلم قد استمر منهم إيجاده في الأيام السالفة، وهم عليه مصرون، وظلمهم: كفرهم وألوان معاصيهم.
لما دعا لوط على قومه بقوله: {رب انصرني} استجاب الله دعاءه، وأمر ملائكته بإهلاكهم وأرسلهم مبشرين ومنذرين، فجاءوا إبراهيم وبشروه بذرية طيبة وقالوا: {إنا مهلكو أهل هذه القرية} يعني أهل سدوم، وفي الآية لطيفتان: إحداهما: أن الله جعلهم مبشرين ومنذرين، لكن البشارة أثر الرحمة، والإنذار بالإهلاك أثر الغضب، ورحمته سبقت غضبه، فقدم البشارة على الإنذار. وقال: {جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى}.
ثم قال: {إنا مهلكو} الثانية: حين ذكروا البشرى ما عللوا وقالوا إنا نبشرك لأنك رسول، أو لأنك مؤمن أو لأنك عادل، وحين ذكروا الإهلاك عللوا، وقالوا: {إن أهلها كانوا ظالمين} لأن ذا الفضل لا يكون فضله بعوض، والعادل لا يكون عذابه إلا على جرم، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: لو قال قائل أي تعلق لهذه البشرى بهذا الإنذار، نقول لما أراد الله إهلاك قوم وكان فيه إخلاء الأرض عن العباد قدم على ذلك إعلام إبراهيم بأنه تعالى يملأ الأرض من العباد الصالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه.
المسألة الثانية: قال في قوم نوح {فأخذهم الطوفان} وقد قلت إن ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم، ولو يقل فأخذهم وكانوا ظالمين، وههنا قال: {إن أهلها كانوا ظالمين} ولم يقل وإنهم ظالمون، فنقول: لا فرق في الموضعين في كونهم مهلكين وهم مصرون على الظلم، لكن هناك الإخبار من الله وعن الماضي حيث قال: {فأخذهم} وكانوا ظالمين، فقال أخذهم وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون، وههنا الإخبار من الملائكة وعن المستقبل حيث قالوا: {إنا مهلكو} فالملائكة ذكروا ما يحتاجون إليه في إبانة حسن الأمر من الله بالإهلاك، فقالوا: إنا مهلكوهم لأن الله أمرنا، وحال ما أمرنا به كانوا ظالمين، فحسن أمر الله عند كل أحد، وأما نحن فلا نخبر بما لا حاجة لنا إليه، فإن الكلام عن الملك بغير إذنه سوء أدب، فنحن ما احتجنا إلا إلى هذا القدر، وهو أنهم كانوا ظالمين حيث أمرنا الله بإهلاكهم بيانا لحسن الأمر، وأما أنهم ظالمون في وقتنا هذا أو يبقون كذلك فلا حاجة لنا إليه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير: فاستجبنا له فأرسلنا رسلنا بشرى لعمه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ولإهلاك قوم لوط عليه الصلاة والسلام، تحقيقاً لانتقامنا من المجرمين، وإنعامنا على الصالحين، ولابتلائنا لمن نريد من عبادنا حيث جعلنا النذارة مقارنة للبشارة، عطف عليه قوله: {ولما جاءت} وأسقط "أن "لأنه لم يتصل المقول بأول المجيء بل كان قبله السلام والإضافة؛ وعظم الرسل بقوله {رسلنا} أي من الملائكة تعظيماً لهم في أنفسهم ولما جاؤوا به {إبراهيم بالبشرى} أي بإسحاق ولداً له، ويعقوب ولداً لإسحاق عليهما الصلاة والسلام.
ولما كان المقام للابتلاء والامتحان، أجمل البشرى، وفصل النذرى، فقال: {قالوا} أي الرسل عليهم الصلاة والسلام لإبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد أن بشروه وتوجهوا نحو سدوم، جواباً لسؤاله عن خطبهم، تحقيقاً لأن أهل السيئات مأخوذون، وأكدوا لعلمهم أن الخليل عليه الصلاة والسلام يود أن يهديهم الله على يد ابن أخيه ولا يهلكهم، فقالوا: {إنا مهلكو} وأضافوا تحقيقاً لأن الأمر قد حق وفرغ منه فقالوا: {أهل هذه القرية} ثم عللوا ذلك بقولهم: {إن أهلها} مظهرين غير مضمرين إفهاماً لأن المراد أهلها الأضلاء في ذلك، إخراجاً للوط عليه السلام: {كانوا ظالمين} أي عريقين في هذا الوصف، فلا حيلة في رجوعهم عنه.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
قال سبحانه: {إِنَّ أَهْلَهَا} دون إنهم مع أنه أظهر وأخصر تنصيصاً على اتفاقهم على الفساد.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما كانت {لما} ظرفاً مبهماً تعين أن يكون مضمون الجملة التي تضاف إليها {لما} معلوماً للسامع، إذ التوقيت الإعلام بمقارنة زمن مجهول بزمن معلوم. فوجود {لما} هنا يقتضي أن مجيء الملائكة بالبشرى أمر معلوم للسامع مع أنه لم يتقدم ذكر للبشرى، فتعين أن يكون التعريف في البشرى تعريف العهد لاقتضاء {لما} أن تكون معلومة، فالبشرى هي ما دل عليه قوله تعالى آنفاً {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوءة والكتاب} [العنكبوت: 27] كما تقدم بيانه...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
ومن قصة إبراهيم انتقل كتاب الله إلى قصة لوط، ولا غرابة في ذلك، فبين القصتين ارتباط ناشئ عن القرابة الروحية والعائلية القائمة بين الاثنين، حتى ان إبراهيم لما أخبره الملائكة بأنهم موكلون بإهلاك قوم لوط والقضاء على قريتهم الظالمة انزعج لذلك، خوفا من أن يشمل عقاب الله لهم لوطا نفسه...