مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَمَّا جَآءَتۡ رُسُلُنَآ إِبۡرَٰهِيمَ بِٱلۡبُشۡرَىٰ قَالُوٓاْ إِنَّا مُهۡلِكُوٓاْ أَهۡلِ هَٰذِهِ ٱلۡقَرۡيَةِۖ إِنَّ أَهۡلَهَا كَانُواْ ظَٰلِمِينَ} (31)

ثم قال تعالى : { ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين }

لما دعا لوط على قومه بقوله : { رب انصرني } استجاب الله دعاءه ، وأمر ملائكته بإهلاكهم وأرسلهم مبشرين ومنذرين ، فجاءوا إبراهيم وبشروه بذرية طيبة وقالوا : { إنا مهلكو أهل هذه القرية } يعني أهل سدوم ، وفي الآية لطيفتان : إحداهما : أن الله جعلهم مبشرين ومنذرين ، لكن البشارة أثر الرحمة والإنذار بالإهلاك أثر الغضب ، ورحمته سبقت غضبه ، فقدم البشارة على الإنذار . وقال : { جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى } ثم قال : { إنا مهلكوا } الثانية : حين ذكروا البشرى ما عللوا وقالوا إنا نبشرك لأنك رسول ، أو لأنك مؤمن أو لأنك عادل ، وحين ذكروا الإهلاك عللوا ، وقالوا : { إن أهلها كانوا ظالمين } لأن ذا الفضل لا يكون فضله بعوض ، والعادل لا يكون عذابه إلا على جرم ، وفيه مسألتان :

المسألة الأولى : لو قال قائل أي تعلق لهذه البشرى بهذا الإنذار ، نقول لما أراد الله إهلاك قوم وكان فيه إخلاء الأرض عن العباد قدم على ذلك إعلام إبراهيم بأنه تعالى يملأ الأرض من العباد الصالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه .

المسألة الثانية : قال في قوم نوح { فأخذهم الطوفان } وقد قلت إن ذلك إشارة إلى أنهم كانوا على ظلمهم حين أخذهم ، ولو يقل فأخذهم وكانوا ظالمين ، وههنا قال : { إن أهلها كانوا ظالمين } ولم يقل وإنهم ظالمون ، فنقول لا فرق في الموضعين في كونهم مهلكين وهم مصرون على الظلم ، لكن هناك الإخبار من الله وعن الماضي حيث قال : { فأخذهم } وكانوا ظالمين ، فقال أخذهم وهم عند الوقوع في العذاب ظالمون ، وههنا الإخبار من الملائكة وعن المستقبل حيث قالوا : { إنا مهلكوا } فالملائكة ذكروا ما يحتاجون إليه في إبانة حسن الأمر من الله بالإهلاك ، فقالوا : إنا مهلكوهم لأن الله أمرنا ، وحال ما أمرنا به كانوا ظالمين ، فحسن أمر الله عند كل أحد ، وأما نحن فلا نخبر بما لا حاجة لنا إليه ، فإن الكلام عن الملك بغير إذنه سوء أدب ، فنحن ما احتجنا إلا إلى هذا القدر ، وهو أنهم كانوا ظالمين حيث أمرنا الله بإهلاكهم بيانا لحسن الأمر ، وأما أنهم ظالمون في وقتنا هذا أو يبقون كذلك فلا حاجة لنا إليه .