ثم تصور السورة الكريمة تصويرا معجزا ، مشهدهم عندما تنزل السورة القرآنية على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم حاضرون في مجلسه فتقول : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } أو آيات منها ، على الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهم موجودون في مجلسه { نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } في ريبة ومكر ، وتغامزوا بعيونهم وجوارحهم في لؤم وخسة ثم تساءلوا : { هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ } أى : هل يراكم في أحد من المسلمين إذا ما قمتم من هذا المجلس ، قبل أن يتلو الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه السورة أو الآيات التي قد تفضحكم وتكشف عما اسررتموه فيما بينكم .
{ ثُمَّ انصرفوا } من مجلس الرسول - صلى الله عليه وسلم - متسللين في حذر حتى لا يراهم أحد من المسلمين .
وقوله : { صَرَفَ الله قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } ذم لهم لإِيثارهم الغى على الرشد ، والضلالة على الهداية .
أى : صرف الله قلوبهم عن الهداية والرشاد ، بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما فيه خيرهم ونفعهم . وإنما يفقهون ما فيه شقاؤهم وتعاستهم .
هذا ، وإن الناظر في هذه الآيات الكريمة يتدبر وإمعان ، ليراها قد صورت أحوال المنافقين وأخلاقهم وحركاتهم تصويرا دقيقا معجزا ، حتى إنه ليخيل إلى القارئ لهذه الآيات الكريمة أو السامع لها ، أنه يشهد المنافقين مشاهدة حسية وهم على تلك الحالة من التحرك المريب والنظرات الخبيثة ، والخروج من مجلس النبى - صلى الله عليه وسلم - في حذر وريبة . .
وهذا كله مما يشهد بأنه هذا القرآن إنما هو من عند الله العليم بخفايا الصدور ، وبطوايا النفوس .
{ وإذا ما أُنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض } تغامزوا بالعيون إنكارا لها وسخرية ، أو غيظا لما فيها من عيوبهم . { هل يراكم من أحد } أي يقولون هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن لم يرهم أحد قاموا وإن يرهم أحد أقاموا . { ثم انصرفوا } عن حضرته مخافة الفضيحة . { صرف الله قلوبهم } عن الإيمان وهو يحتمل الأخبار والدعاء . { بأنهم } بسبب أنهم . { قوم لا يفقهون } لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم .
الضمير في قوله { بعضهم } عائد على المنافقين ، والمعنى وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحة أسرارهم { نظر بعضهم إلى بعض } على جهة التقريب ، يفهم من تلك النظرة التقرير : هل معكم من ينقل عنكم ؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم ؟ وقوله تعالى : { ثم انصرفوا } معناه عن طريق الاهتداء . وذلك أنهم حين ما يبين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر ، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة ذلك ، فهم إذ يصممون على الكفر ويرتبكون فيه{[5984]} كأنهم انصرفوا عن تلك الحال التي كانت مظنة النظر الصحيح والاهتداء ، وابتدىء بالفعل المسند إليهم إذ هو تعديد ذنب على ما قد بيناه ، وقوله { صرف الله قلوبهم } يحتمل أن يكون دعاء عليهم ، ويحتمل أن يكون خبراً أي استوجبوا ذلك { بأنهم قوم لا يفقهون } أي لا يفهمون عن الله ولا عن رسوله ، وأسند الطبري في تفسير هذه الآية عن ابن عباس أنه قال : لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوماً انصرفوا فصرف الله قلوبهم ، ولكن قولوا قضينا الصلاة .
قال القاضي أبو محمد : فهذا النظر الذي في هذه الآية هو إيماء ، وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال : نظر في هذه الآية في موضع قال .
عطف على جملة : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً } [ التوبة : 124 ] والظاهر أن المقصود عطف جملة : { نظر بعضهم إلى بعض } على جملة : { فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً } [ التوبة : 124 ] . وإنما أعيدت جملة الشرط لبعد ما بين الجملة المعطوفة وجملة الجزاء ، أو للإشارة إلى اختلاف الوقت بالنسبة للنزول الذي يقولون عنده { أيكم زادته هذه إيماناً } [ التوبة : 124 ] وبالنسبة للسورة التي عند نزولها ينظر بعضهم إلى بعض ، أو لاختلاف السورتين بأن المراد هنا سورة فيها شيء خاص بهم .
وموجب زيادة ( ما ) بعد ( إذا ) في الآيتين متحد لاتحاد مقتضيه .
ونظَرُ بعضهم إلى بعض عند نزول السورة يدل على أنهم كانوا حينئذٍ في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم لأن نظر بعضهم إلى بعض تعلقت به أداة الظرفية ، وهي ( إذا ) . فتعين أن يكون نظرُ بعضهم إلى بعض حاصلاً وقت نزول السورة . ويدل لذلك أيضاً قوله : { ثُم انصرفوا } أي عن ذلك المجلس . ويدل أيضاً على أن السورة مشتملة على كشف أسرارهم وفضح مكرهم لأن نظر بعضهم إلى بعض هو نظر تعجب واستفهام . وقد قال تعالى في الآية السابقة : { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون } [ التوبة : 64 ] . ويدل أيضاً على أنهم كاتمون تعجُّبَهم من ظهور أحوالهم خشية الاعتراف بما نسب إليهم ولذلك اجتزوا بالتناظر دون الكلام . فالنظر هنا نظر دال على ما في ضمير الناظر من التعجب والاستفهام .
وجملة : { هل يراكم من أحد } بيان لجملة { نظر بعضهم إلى بعض } لأن النظر تفاهموا به فيما هو سِرّ بينهم ؛ فلما كان النظر نظر تفاهم صح بيان جملته بما يدل على الاستفهام التعجيبي ، ففي هذا النظم إيجازُ حذف بديعٌ دلت عليه القرينة . والتقدير : وإذا ما أنزلت سورة فيها فضيحةُ أمرهم نظر بعضهم إلى بعض بخائنة الأعين مستفهمين متعجبين من اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على أسرارهم ، أي هل يراكم من أحد إذا خلوتم ودبرتم أموركم ، لأنهم بكفرهم لا يعتقدون أن الله أطْلع نبيه عليه الصلاة والسلام على دخيلة أمرهم .
وزيادة جملة : { ثم انصرفوا } لإفادة أنهم لم يكتسبوا من نزول السورة التي أطلعت المؤمنين على أسرارهم عبرةً ولا قُرباً من الإيمان ، بل كان قصارى أمرهم التعجب والشك في أن يكون قد اطلع عليهم من يبوح بأسرارهم ثم انصرفوا كأن لم تكن عبرة . وهذا من جملة الفتن التي تحل بهم ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون .
وجملة : { صرف الله قلوبهم } مستأنفة استئنافاً بيانياً ، لأن ما أفاده قوله : { ثم انصرفوا } من عدم انتفاعهم بما في تلك السورة من الإخبار بالمغيبات الدال على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم يثير سؤال من يسأل عن سَبب عدم انتفاعهم بذلك واهتدائهم ، فيجاب بأن الله صرف قلوبهم عن الفهم بأمر تكويني فحُرموا الانتفاع بأبلغ واعظ .
وكان ذلك عقاباً لهم بسبب أنهم { قوم لا يفقهون } ، أي لا يفهمون الدلائل ، بمعنى لا يتطلبون الهدى بالتدبر فيفهموا .
وجعل جماعة من المفسرين قولَه : { صرف الله قلوبهم } دعاء عليهم ، ولا داعي إليه لأن دعاء الله على مخلوقاته تكوين كما تقدم ، ولأنه يأباه تسْبيبه بقوله : { بأنهم قوم لا يفقهون } .
وقد أعرض المفسرون عن تفسير هذه الآية تفسيراً يبين استفادة معانيها من نظم الكلام فأتوا بكلام يخاله الناظر إكراهاً لها على المعنى المراد وتقديرات لا ينثلج لها الفؤاد .