أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المشركين الذين جاؤوك ليساوموك على أن تعبد آلهتهم مدة ، وهم يعبدون إلهك مدة أخرى . . قل لهم على سبيل الحزم والتأكيد : " لا أعبد " أنا الذى تعبدونه من آلهة باطلة ، ولا أنتم عابدون الإِله الحق الذى أعبده ، لجهلكم وجحودكم ، وعكوفكم على ما كان عليه آباؤكم من ضلال .
وافتتحت السورة الكريمة بفعل الأمر " قل " للاهتمام لما سيأتى بعده من كلام المقصود منه إبلاغه إليهم ، وتكليفهم بالعمل به .
ونودوا بوصف الكافرين ؛ لأنهم كانوا كذلك ، ولأن في هذا النداء تحقيرا واستخفافا بهم .
و " ما " هنا موصولة بمعنى الذي ، وأوثرت على " مَن " لأنهم ما كانوا يشكون فى ذات الآلهة التي يعبدونها ، ولافي ذات الإله الحق الذى يعبده النبى صلى الله عليه وسلم ، وإنما كانوا يشكون فى أوصافه - تعالى - ، من زعمهم أن هذه الأصنام ما يعبدونها إلا من أجل التقرب إليه .
ويقولون : { هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله } مع أن الله - تعالى - منزه عن ذلك ، فالمقصود من " ما " هنا : الصفة ، وليس الذات ، فكأنه قال : لا أعبد الباطل الذي تعبدونه ، وأنتم لجهلكم لا تعبدون الإله الحق الذى أعبده .
وقوله - تعالى - : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ . وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } تأكيد وتقرير لما اشتمل عليه الكلام السابق . . " وما " هنا مصدرية ، فكأنه قبل : ولا أنا عابد عبادتكم ، ولا أنتم عابدون عبادتى .
فالآيتان السابقتان تنفيان الاتحاد بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم في المعبود ، وهاتان الآيتان تنفيان الاتحاد في العبادة ، والمقصود من ذلك المبالغة التامة في البراءة من معبوداتهم الباطلة ، ومن عبادتهم الفاسدة ، وأنه صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين ، لا يعبدون إلا الله - عز وجل - ، وهم بذلك يكونون قد اهتدوا إلى العبادة الصحيحة .
قرأ أبي بن كعب وابن مسعود : «قل للذين كفروا » ، وروي في سبب نزول هذه السورة عن ابن عباس وغيره أن جماعة من عتاة قريش ورجالاتها قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : دع ما أنت فيه ونحن ُنَمِّوُلك ونزوجك من شئت من كرائمنا ونملكك علينا ، وإن لم تفعل هذا فلتعبد آلهتنا ولنعبد إلهك حتى نشترك ، فحيث كان الخير نلناه جميعاً ، هذا معنى قولهم ولفظهم ، لكن للرواة زيادة ونقص ، وروي أن هذه الجماعة المذكورة الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية بن خلف وأبو جهل وابنا الحجاج ونظراؤهم ممن لم يسلم بعد ، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم معهم في هذه المعاني مقامات ، نزلت السورة في إحداها بسبب قولهم : هلم نشترك في عبادة إلهك وآلهتنا ، وروي أنهم قالوا : اعبد آلهتنا عاماً ، ونعبد إلهك عاماً ، فأخبرهم عن أمره عز وجل أن لا يعبد ما يعبدون ، وأنهم غير عابدين ما يعبد ، فلما كان قوله : { لا أعبد } محتملاً أن يراد به الآن ، ويبقى المستأنف منتظراً ما يكون فيه من عبادته ، جاء البيان بقوله : { ولا أنا عابد ما عبدتم } ، أي أبداً وما حييت .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ لا أعبد ما تعبدون } يقول : لا أعبد آلهتكم التي تعبدون اليوم . ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان المشركون من قومه -فيما ذُكر- عرضوا عليه أن يعبدوا الله سنة ، على أن يعبد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم آلهتهم سنة ، فأنزل الله مُعَرّفه جوابهم في ذلك : قُلْ يا محمد لهؤلاء المشركين الذين سألوك عبادة آلهتهم سنة ، على أن يعبدوا إلهك سنة "يا أيّها الكافِرُونَ" بالله "لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ" من الآلهة والأوثان الآن ، "وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ" الآن ، "وَلا أنا عابِدٌ" فيما أستقبل "ما عَبَدْتُمْ" فيما مضى ، "وَلا أنْتُمْ عابِدُونَ" فيما تستقبلون أبدا "ما أعْبُدُ" أنا الآن ، وفيما أستقبل . وإنما قيل ذلك كذلك ؛ لأن الخطاب من الله كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أشخاص بأعيانهم من المشركين ، قد علم أنهم لا يؤمنون أبدا ، وسبق لهم ذلك في السابق من علمه ، فأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يُؤَيّسَهم من الذي طمعوا فيه ، وحدّثوا به أنفسهم ، وأن ذلك غير كائن منه ولا منهم ، في وقت من الأوقات ، وآيسَ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم من الطمع في إيمانهم ، ومن أن يفلحوا أبدا ، فكانوا كذلك لم يفلحوا ولم ينجحوا ، إلى أن قُتِل بعضُهم يوم بدر بالسيف ، وهلك بعض قبل ذلك كافرا ...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وفي هذه السورة وجهان من الدلالة :
أحدهما : ما ذكرنا من إثبات الرسالة .
والثاني : إخبار عن الإياس لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يرجع إلى دينهم أبدا ، وقطع رجائهم وطمعهم في ذلك .
وفيه أيضا أن من أشرك غير الله في عبادته سبحانه وتعالى وعبد غيره دونه على رجاء القربة إلى الله تعالى ، فهو ليس بعابد الله تعالى ولا موحد له ؛ لأن أولئك إنما عبدوا الأصنام رجاء أن تشفع لهم ، ورجاء أن تقربهم إلى الله زلفى . أخبر أنها لا تقربهم زلفى ، وأنهم ليسوا بموحدين ولا عابدين لله تعالى ....
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فأمر الله تعالى نبيه ( صلى الله عليه وآله ) أن يقول لهم :{ لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } ومعناه لا أعبد ما تعبدون لفساد عبادة الأوثان ، ولا أنتم عابدون ما أعبد لجهلكم بوجوب إخلاص العبادة لله .... وإنما كرر ذكر العبادة لتصريفها في الفوائد المختلفة ، وقد نفى عبادة المؤمن للوثن كيف تصرفت الحال في ماض أو حاضر أو مستقبل لقبحها ، ونفى عبادة الكافر لله مع إقامته على الجهل بوجوب إخلاص العبادة له . وقيل : في وجه التكرير في السورة أن ظاهر ذلك وإن كان تكريرا فليس في الحقيقة تكريرا أصلا ، ولا تكرير في اللفظ إلا في موضع واحد سنبينه بعد بيان المعنى إن شاء الله ، وذلك أن قوما من المشركين سألوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) مناقلة العبادة : سنة يعبدون فيها ما يعبده ( صلى الله عليه وآله ) ، وسنة يعبد هو ما يعبدون ، لزوال العادة بوقوع العبادة على هذه الجهلة ، فجاء الكلام على طريق الجواب لإنكار ما سألوا ، فقيل : { لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد } وهذا نفي منه لما يعبدون في الاستقبال . ...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ لاَ أَعْبُدُ } أريدت به العبادة فيما يستقبل... والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي ....
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
ولما كان قوله : { لاَ أَعْبُدُ } محتملاً أَن يُرَادَ بهِ الآنَ ، وَيَبْقَى المستأنَفُ منتظَراً ما يكونُ فيه من عبادتهِ ، جاء البيانُ بقوله : { وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي : أبداً ، ثمَّ جاء قوله : { وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ } الثاني حَتْماً عليهمْ أنَّهم لاَ يؤمِنُونَ به أبداً ، كالَّذِي كَشَفَ الغيبَ ....
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } لأن الله قد أرسلني لأرفض الذي تعبدونه ، ولأدعو الناس إلى أن يرفضوه ، فكيف تدعونني إلى أن أعبده ؟ !
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.