اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ} (2)

قوله : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } . في «مَا » هذه في هذه السورة وجهان :

أحدهما : أن تكون بمعنى «الذي » .

والثانية : فالأمر فيها واضح ؛ لأنها لغير عقلاء . و «ما » أصلها أن تكون لغير العقلاء ، وإذا أريد بها الباري - تعالى - كما في الثانية والرابعة ، فاستدلّ به من جوز وقوعها على أولي العلمِ ، ومن منع جعلها مصدرية ، والتقدير : ولا أنتم عابدون عبادتي ، أي : مثل عبادتي .

وقال أبو مسلم : «ما » في الأوليين بمعنى «الذي » ، والمقصود : المعبود ، و «ما » في الأخريين مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم المبنية على الشَّك وترك النظر ، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين ، فيحصل من مجموع ذلك ثلاثة أقوال : أنها كلَّها بمعنى «الذي » ، أو مصدرية ، أو الأوليان بمعنى الذي ، والثالثة والرابعة مصدرية ، لكان حسناً ، حتى لا يلزم وقوع «ما » على أولي العلم ، وهو مقتضى من يمنع وقوعها على أولي العلم ، كما تقدم .

فصل في التكرار في الآية

اختلفوا في التَّكرار - هاهنا- هل هو للتأكيد ، أم لا ؟ وإذا لم يكن للتأكيد فقوله تعالى : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } تأكيد لقوله { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } ، وقوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } ثانياً تأكيد لقوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } أولاً . ومثله : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] ، و { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } في سورتيهما ، و { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ التكاثر : 3 ، 4 ] ، و { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } [ النبأ : 4 5 ] وفي الحديث : «فَلاَ آذَنُ ثُمَّ لا آذنُ ، إنَّما فَاطِمةُ بَضعَةٌ منِّي »{[60993]} ؛ وقال الشاعر : [ مجزوء الكامل ]

5330- هَلاَّ سَألْتَ جُموعَ كِنْ *** دّةَ يَوْمَ ولَّوْا أيْنَ أيْنَا{[60994]}

وقوله : [ الرجز ]

5331- يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ يَا عَلْقَمَهْ *** خَيْرَ تَمِيمٍ كُلِّهَا وأكْرمَهْ{[60995]}

وقوله : [ الرجز ]

5332- يَا أقَرعُ بْنُ حَابِسٍ يَا أقْرَعُ *** إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ{[60996]}

وقوله : [ الطويل ]

5333- ألا يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي*** ثَلاثَ تَحِيَّاتٍ وإنْ لَمْ تَكَلَّمِ{[60997]}

وقوله : [ الرجز ]

5334- يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَرٌ يَا جَعْفَر*** إنْ أكُ دَحْدَاحَاً فأنت أقْصَرُ{[60998]}

وقوله : [ المديد ]

5335- يَا لَبكْرٍ أنْشِرُوا لِي كُلَيْبَاً *** يَا لَبكْرٍ أيْنَ أيْنَ الفِرَارُ{[60999]}

قالوا : والقرآن جاء على أساليب كلام العرب ، وفائدة التكرير هنا قطع أطماع الكفار وتحقيق الإخبار بموافقتهم على الكفر ، وأنهم لا يسلمون أبداً .

وقيل : هذا على مطابقة قولهم : تعبد آلهتنا ونعبد إلهك [ ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ]{[61000]} ، فنجري على هذا أبداً سنة وسنةً ، فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده ، أي : أن هذا لا يكون أبداً .

وقال جماعة : ليس للتأكيد ، فقال الأخفش : «لا أعبدُ » الساعة «مَا تَعْبُدُونَ ، ولا أنْتُم عَابِدُونَ » السنة «ما أعبدُ » ، فلا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد ؛ فزال التوكيد ؛ إذ قد تقيد كل جملة بزمان مغاير ؛ انتهى .

وفيه نظر ، كيف يقيد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفي عبادته لما يعبدون بزمان ؟ هذا مما لا يصح ، وفي أسباب النزول أنهم سألوه أن يعبد آلهتهم سنة ، فنزلت ، فكيف يستقيم هذا ؟

وجعل أبو مسلم التغاير بما تقدم عنه ، وهو كون «ما » في الأوليين بمعنى «الذي » ، وفي الأخريين : مصدرية ، وفيه نظر من حيث إن التكرار إنَّما هو من حيث المعنى ، وهذا موجود ، كيف قدر «مَا » .

وقال ابن عطية{[61001]} : لما كان قوله : «لا أعْبدُ » محتملاً أن يراد به الآن ، ويبقى المستقبل منتظراً ما يكون فيه ، جاء البيان بقوله : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أبداً وما حييت ، ثم جاء قوله : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } الثاني حتماً عليهم أنهم لا يؤمنون أبداً كالذي كشف الغيب ، كما قيل لنوح - عليه الصلاة والسلام - :{ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } [ هود : 36 ] ، فهذا معنى التَّرديد في هذه السورة ، وهو بارع الفصاحة ، وليس بتكرار فقط ؛ بل فيه ما ذكرته . انتهى .

وقال الزمخشريُّ{[61002]} : «لا أعبد » أريد به العبادة فيما يستقبل ؛ لأن «لا » لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أن «أن » لا تدخل إلاَّ على مضارع في معنى الحال ، ألا ترى [ أنَّ «لَنْ » تأكيد فيما تنفيه «لا » .

وقال الخليل في «لن » : إن أصله : ] {[61003]} «لا أن » ، والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } أي : ما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه ، يعني : لم تعهد مني عبادة صنمٍ في الجاهلية ، فيكف ترجى مني في الإسلام ؛ { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } أي : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته .

فإن قلت : فهلاَّ قيل : ما عبدت ، كما قيل : ما عبدتم ؟ قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث ، وهو لم يكن ليعبد الله - تعالى - في ذلك الوقت . فإن قلت : فلم جاء على «ما » دون «من » ؟ قلت : لأن المراد الصفة ، كأنه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق .

وقيل : إن «ما » مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي . انتهى .

[ يعني أنه أريد به الصفة ، وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة «والشمس وضحاها » ] .

وناقشه أبو حيَّان ، فقال{[61004]} : أما حصره في قوله : لأن «لا » لا تدخل ، وفي قوله : إنَّ «مَا » تدخل ، فليس بصحيح ؛ بل ذلك غالب فيهما ، لا متحتم ، وقد ذكر النحاةُ دخول «لا » على المضارع يراد به الحال ، ودخول «ما » على المضارع يراد به الاستقبال ، وذلك مذكور في المبسُوطات من كتب النحو . ولذلك لم يذكر سيبويه ذلك بأداة الحصر ، إنما قال{[61005]} : وتكون «لا » نفياً ، لقوله : «نفعل » ولم يقع الفعلُ ، قال : «وأمَّا » مَا «فهي نفي ، لقوله : هو يفعل إذا كان في حال الفعل . فذكر الغالب فيهما .

/خ5


[60993]:تقدم تخريجه.
[60994]:البيت لعبيد بن الأبرص، ينظر ديوانه (136)، وشرح شواهد المغني (91)، والقرطبي 20/155، والدر المصون 6/580.
[60995]:ينظر القرطبي 20/155، والدر المصون 6/581، وفتح القدير 5/507.
[60996]:تقدم.
[60997]:تقدم.
[60998]:ينظر المفصل 5/93.
[60999]:هو للمهلهل بن ربيعة، ينظر خزانة الأدب 2/162، وشرح أبيات سيبويه 1/466، والكتاب 2/215، واللامات ص 87، واللسان (لوم)، والخصائص 3/229، والقرطبي 20/155، والدر المصون 6/581.
[61000]:سقط من : أ.
[61001]:المحرر الوجيز 5/531.
[61002]:الكشاف 4/808.
[61003]:سقط من: أ.
[61004]:البحر المحيط 8/523.
[61005]:ينظر: الكتاب 2/305 -306.