الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{لَآ أَعۡبُدُ مَا تَعۡبُدُونَ} (2)

وأما وجه تكرار الكلام فإن معنى الآية { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } في الحال ، { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } في الحال ، { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } في الاستقبال ، { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } في الاستقبال ، وهذا خطاب لمن سبق في علم الله سبحانه أنهم لا يؤمنون ، وقال أكثر أهل المعاني : نزل القرآن بلسان العرب وعلى مجاري خطابهم ، ومن مذاهبهم التكرار إرادة التوكيد والإفهام ، كما أن مذاهبهم الاختصار إرادة التخفيف والإيجاز ؛ لإن إتيان المتكلّم والخطيب وخروجه من شيء الى شيء آخر أفضل من اقتصاره في المقام على شيء واحد ، قال الله تعالى :{ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن ]

{ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] في غير موضع من سورة واحدة ، وقال سبحانه :

{ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } [ النبأ : 4 -5 ] وقال : تعالى{ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ } [ الانفطار : 17 ] وقال :{ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً } [ الشرح : 5-6 ] كل هذا أراد به التأكيد ، ويقول القائل : ارم ارم ، عجّل عجل ، ومنه الحديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد المنبر ذات يوم فقال : " إن بني مخزوم استأذنوا أن ينكحوا فتاتهم علياً ، فلا آذن ، ثم لا آذن ؛ لأنَّ فاطمة بضعة مني ، يسرّها ما يسرّني ، ويسوءها ما يسوءني " .

ومنه قول الشاعر :

هلا سألت جموع كندة *** يوم ولوا أين أينا

وقال آخر :

يا علقمه يا علقمه يا علقمه *** خير تميم كلّها وأكرمه

وقال آخر :

قربا مربط النعامة مني *** لقحت حرب وائل عن حيان

ثم قال في عدة أبيات من هذه القصيدة :

لقحت حرب وائل عن حيان

وأنشدني أبو القاسم بن حبيب قال : أنشدني أبو القاسم عبد الرحمن بن المظفر الأنباري قال : أنشدنا أبو بكر محمد بن أحمد بن القاسم الأنباري لبعض نساء الإعراب .

يقول رجال زوجها لعلها *** تقر وترضى بعده بحليل

فأخفت في النفس التي ليس دونها *** رجاء وإن الصدق أفضل قيل

أبعد ابن عمي سيد القوم مالك *** أزَّف إلى بعل ألدّ كليل

وحدّثني أصحابه أن مالكاً *** أقام ونادى صحبه برحيل

وحدّثني أصحابه أن مالكاً *** صروم كماضي الشفرتين صقيل

وحدّثني أصحابه أن مالكاً *** جواد بما في الرحل غير بخيل

وقال القتيبي : وفيه وجه آخر وهو أنَّ قريشاً قالوا : إن سرّك أن ندخل في دينك عاماً فأدخل في ديننا عاماً ، فنزلت هذه السورة ، فتكرار الكلام لتكرار الوقت ، وقال : فيه وجه آخر ، وهو أن القرآن نزل شيئا بعد شيء ، وآية بعد آية ، فكأنهم قالوا : اعبد آلهتنا سنة ، فقال الله سبحانه : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } ثم قالوا بعد ذلك : استلم بعض آلهتنا ، فانزل الله تعالى : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } .