وقوله - سبحانه - : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ . . . } كلام مستأنف من جهته - تعالى - لتوبيخهم على جهالاتهم ، والاستفهام للإِنكار ، والواو للعطف على مقدر .
والمعنى : أقالوا ما قالوا من باطل وجهل ، ولم يكفهم أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب الناطق بالحق ، يتلى على مسامعهم صباح ومساء ، ويديهم إلى ما فيه سعادتهم ، لو تدبروه وآمنوا به ، واتبعوا أوامره ونواهيه ؟
والتعبير بقوله - سبحانه - : { يتلى عَلَيْهِمْ } ، يشير إلى أن هذه التلاوة متجددة عليهم ، وغير منقطعة عنهم ، وكان فى إمكانهم أن ينتفعوا بها لو كانوا يعقلون .
ولذا ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
أى : إن فى ذلك الكتاب الذى أنزلناه عليك - أيها الرسول الكريم - ، والذى تتلوه عليهم صباح مساء ، لرحمة عظيمة ، وذكرى نافعة ، لقوم يؤمنون بالحق ، ويفتحون عقولهم للرشد ، لا للتعنت والجحود والعناد .
ثم قال تعالى مبينا كثرة جهلهم ، وسخافة عقلهم ، حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق محمد فيما جاءهم [ به ]{[22658]} - وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، الذي هو أعظم من كل معجزة ، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته ، بل عن معارضة عشر سور من مثله ، بل عن معارضة سورة منه - فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ }أي : أولم يكفهم آية أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب العظيم ، الذي فيه خبر ما قبلهم ، ونبأ ما بعدهم ، وحكم ما بينهم ، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ، ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب ، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ، ببيان الصواب مما اختلفوا فيه ، وبالحق الواضح البين الجلي ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 197 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ{[22658]} مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى } [ طه : 133 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ، حدثنا ليث ، حدثني سعيد بن أبي سعيد ، عن أبيه{[22660]} عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من الأنبياء من نبي إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلي ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة " . أخرجاه{[22661]} من حديث الليث{[22662]} .
وقال الله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : إن في هذا القرآن : { لَرَحْمَةً } أي : بيانًا للحق ، وإزاحة للباطل و { ذِكْرَى } بما فيه حلول النقمات ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين ، { لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
عطف على جملة : { قل إنما الآيات عند الله } [ العنكبوت : 50 ] وهو ارتقاء في المجادلة .
والاستفهام تعجيبي إنكاري . والمعنى : وهل لا يكفيهم من الآيات آيات القرآن فإن كل مقدار من مقادير إعجازه آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإن آيات القرآن زهاء ستة آلاف آية . ومقدار كل ثلاث آيات مقدار مُعجز ، فيحصل من القرآن مقدار ألفي معجزة وذلك لم يحصل لأحد من رسل الله .
و { الكتاب } : القرآن ، وعُدل عن لفظ القرآن الذي هو كالعلم عليه إلى لفظ الكتاب المعهود لإيمائه إلى معنى تعظيمه بأنه المشتهر من بين كتب الأنبياء .
وجملة : { يتلى عليهم } مستأنفة أو حال ، لأن الكتاب معلوم غير محتاج للوصف لما تشعر به مادة التلاوة من الانتشار والشيوع . واختير المضارع دون الوصف بأن يقال : متلواً عليهم ، لما يؤذن به المضارع من الاستمرار ، فحصل من مادة { يُتْلَى } ومن صيغة المضارع دلالة على عموم الأمكنة والأزمنة . وقد أشار قوله : { يُتْلى عليهم } وما بعده إلى خمس مزايا للقرآن على غيره من المعجزات .
المزية الأولى : ما أشار إليه قوله { يُتْلى عليهم } من انتشار إعجازه وعمومه في المجامع والآفاق والأزمان المختلفة بحيث لا يختص بإدْراك إعجازه فريق خاص في زمن خاص شأن المعجزات المشهودة مثل عصا موسى وناقة صالح وبرء الأكمة ، فهو يتلى ، ومن ضمن تلاوته الآيات التي تحدّت الناس بمعارضته وسجلت عليهم عجزهم عن المعارضة من قَبل محاولتهم إياها فكان كما قال فهو معجزة باقية والمعجزات الأخرى معجزات زائلة .
المزية الثانية : كونه مما يُتلى ، فإن ذلك أرفع من كون المعجزات الأخرى أحوالاً مرئية لأن إدراك المتلوّ إدراك عقلي فكري وهو أعلى من المدركات الحسية فكانت معجزةُ القرآن أليق بما يستقبل من عصور العلم التي تهيأت إليها الإنسانية .
المزية الثالثة : ما أشار إليه قوله : { إن في ذلك لرحمة } فإنها واردة مورد التعليل للتعجيب من عدم اكتفائهم بالكتاب وفي التعليل تتميم لما اقتضاه التعبير بالكتاب وب { يتلى عليهم } ، فالإشارة ب { ذلك } إلى { الكتاب } ليستحضر بصفاته كلها وللتنويه به بما تقتضيه الإشارة من التعظيم . وتنكير ( رحمة ) للتعظيم ، أي لا يقادَر قدرها . فالكتاب المتلو مشتمل على ما هو رحمة لهم اشتمال الظرف على المظروف لأنه يشتمل على إقامة الشريعة وهي رحمة وصلاح للناس في دنياهم ، فالقرآن مع كونه معجزة دالّةً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ومرشدة إلى تصديقه مثل غيره من المعجزات وهو أيضاً وسيلة علم وتشريع وآداب للمتلو عليهم وبذلك فضَل غيره من المعجزات التي لا تفيد إلا تصديق الرسول الآتي بها .
المزية الرابعة : ما أشار إليه قوله : { وذكرى } فإن القرآن مشتمل على مواعظ ونذر وتعريف بعواقب الأعمال ، وإعدادٍ إلى الحياة الثانية ، ونحو ذلك مما هو تذكير بما في تذكره خيرُ الدارين ، وبذلك فضَل غيره من المعجزات الصامتة التي لا تفيد أزيد من كون الآتية على يديه صادقاً .
المزية الخامسة : أن كون القرآن كتاباً متلواً مستطاعاً إدراك خصائصه لكل عربي ، ولكل من حذق العربية من غير العرب مثل أيمة العربية ، يبعده عن مشابهة نفثات السحرة والطلاسم ، فلا يستطيع طاعن أن يزعم أنه تخيلات كما قال قوم فرعون لموسى : { يأيها الساحر } [ الزخرف : 49 ] وقال تعالى حكاية عن المشركين حين رأوا معجزة انشقاق القمر : { وإن يروا ءاية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } [ القمر : 2 ] ، فأشار قوله : { يعرضوا } إلى أن ذلك القول صدر عنهم في معجزة مرئية .
وعُلق بالرحمة والذكرى قوله : { لِقَوم يؤمنون } للإشارة إلى أن تلك منافع من القرآن زائدة على ما في المعجزات الأخرى من المنفعة التي هي منفعة الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه مزايا عظيمة لمعجزة القرآن حاصلة في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيبته ومستقلة عن الحاجة إلى بيانه وتكميله بالدعوة وبتكريرها .
واستحضار المؤمنين بعنوان : ( قوم يؤمنون ) دون أن يقال : للمؤمنين ، لما في لفظ قوم من الإيماء إلى أن الإيمان من مقومات قوميتهم ، أي لقوم شعارهم أن يؤمنوا ، يعني لقوم شعارهم النظر والإنصاف فإذا قامت لهم دلائل الإيمان آمنوا ولم يكابروا ظلماً وعلوّاً ، فالفعل مراد به الحال القريبة من الاستقبال . وفيه تعريض بالذين لم يكتفوا بمعجزته واقترحوا آيات أخرى لا نسبة بينه وبينها .