وقوله - سبحانه - : { الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ . في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } صفات أخرى للرب - عز وجل - الكريم المنان .
والخلق : هو الإِيجاد على مقدار معين مقصود . والتسوية : جعل الشئ سويا ، أى : قويما سليما خاليا من الاضطراب والاختلال .
وقوله : { فَعَدَلَكَ } قرأها بعضهم بفتح الدال مع التخفيف ، وقرأها آخرون بفتحها مع التشديد ، وهما متقاربان ، إلا أن التشديد يفيد المبالغة فى التعديل ، الذى هو جعل البنية معتدلة ، متناسبة الأعضاء ، فالتسوية ترجع إلى عدم النقصان فى الأعضاء ، والتعديل يرجع إلى عدم التخالف فيها وهذا ، باعتبار الأصل فى خلق الإِنسان ، فلا عبرة بوجود ما يخالف ذلك فى قلة من أفراد الإِنسان .
والمعنى : يأيها الإِنسان ، أى شئ خدعك وجرأك على معصية ربك الكريم . . الذى من مظاهر كرمه أنه { خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ } بأن جعل أعضاءك سوية سليمة . مهيأة لاكتساب منافعها على حسب ما تقتضيه حكمة خالقك { فعدلك } أى : فعدل أعضاؤك بأن جعلها متناسقة متوازنة بعضها مع بعض ، فلم يجعل - مثلا - إحدى يديك طويلة والأخرى قصيرة ، ولم ثيجعل - مثلا - جانباً من جسدك أبيض ، والأخر أسود .
وقوله : { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } أي : ما غرك بالرب الكريم { الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } أي : جعلك سَويا معتدل القامة منتصبها ، في أحسن الهيئات والأشكال .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النضر ، حدثنا حَريزُ ، حدثني عبد الرحمن بن مَيسرة ، عن جُبير ابن نُفَير ، عن بُسْر بن جحَاش القرشي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوما في كفه ، فوضع عليها إصبعه ، ثم قال : " قال اللَه عز وجل : ابن{[29812]} آدم أنَّى تُعجِزني وقد خلقتك من مثل هذه ؟ حتى إذا سَوّيتك وعدلتك ، مشيت بين بردين وللأرض منك وَئِيدٌ ، فجَمَعت ومَنعت ، حتى إذا بلغت التراقي قلتَ : أتصدقُ ، وأنَّى أوانُ الصدقة " .
وكذا رواه ابن ماجة ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، عن حَريز بن عثمان ، به{[29813]} .
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزِّي : وتابعه يحيى بن حمزة ، عن ثور بن يزيد ، عن عبد الرحمن بن ميسرة{[29814]} .
وكذلك إجراء وصف الكريم دون غيره من صفات الله للتذكير بنعمته على الناس ولطفه بهم فإن الكريم حقيق بالشكر والطاعة .
والوصف الثالث الذي تضمنته الصلة : { فعَدَّلك في أيّ صورة } جامع لكثير مما يؤذن به الوصفان الأولان فإن الخلق والتسوية والتعديل وتحسين الصورة من الرفق بالمخلوق ، وهي نعم عليه وجميع ذلك تعريض بالتوبيخ على كفران نعمته بعبادة غيره .
وذكر عن صالح بن مسمار قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال : « غره جهله » ، ولم يذكر سنداً .
وتعداد الصلات وإن كان بعضها قد يغني عن ذكر البعض فإن التسوية حالة من حالات الخلق ، وقد يغني ذكرها عن ذكر الخلق كقوله : { فسواهن سبع سماوات } [ البقرة : 29 ] ولكن قُصد إظهار مراتب النعمة . وهذا من الإِطناب المقصود به التذكير بكل صلة والتوقيف عَليها بخصوصها ، ومن مقتضيات الإِطناب مقام التوبيخ .
والخَلق : الإِيجاد على مقدار مقصود .
والتسْوية : جعل الشيء سويّاً ، أي قويماً سليماً ، ومن التسوية جعل قواه ومنافعه الذاتية متعادلة غير متفاوتة في آثار قيامها بوظائفها بحيث إذا اختل بعضها تطرق الخلل إلى البقية فنشأ نقص في الإِدراك أو الإِحساس أو نشأ انحراف المزاج أو ألم فيه ، فالتسوية جامعة لهذا المعنى العظيم .
والتعديل : التناسب بين أجزاء البدن مثل تناسب اليدين ، والرجلين ، والعينين ، وصورة الوجه ، فلا تفاوت بين متزاوجها ، ولا بشاعة في مجموعها . وجعَلَه مستقيم القامة ، فلو كانت إحدى اليدين في الجنب ، والأخرى في الظهر لاختلّ عملهما ، ولو جعل العينان في الخلف لانعدمت الاستفادة من النظر حال المشي ، وكذلك مواضع الأعضاء الباطنة من الحَلق والمعدة والكبد والطحال والكليتين . وموضع الرئتين والقلب وموضع الدماغ والنخاع .
وخلق الله جسد الإِنسان مقسمةً أعضاؤه وجوارحه على جهتين لا تفاوت بين جهة وأخرى منهما وجعل في كل جهة مثل ما في الأخرى من الأوردة والأعصاب والشرايين .
وفرع فعل « سواك » على { خلقك } وفِعل « عدَّلك » على « سوّاك » تفريعاً في الذكر نظراً إلى كون معانيها مترتبة في اعتبار المعتبر وإن كان جميعاً حاصلاً في وقت واحد إذ هي أطوار التكوين من حين كونه مضغة إلى تمام خلقه فكان للفاء في عطفها أحسن وقع كما في قوله تعالى : { الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى } [ الأعلى : 2 ، 3 ] .
وقرأ الجمهور : { فعدَّلك } بتشديد الدال . وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الدال ، وهما متقاربان إلا أن التشديد يدل على المبالغة في العدل ، أي التسوية فيفيد إتقان الصنع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.