ثم بين - سبحانه - حسن عاقبة بعد بيان سوء عاقبة الكافرين فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
قال الجمل : والإِخبات فى اللغة هو الخشوع والخضوع وطمأنينة القلب . ولفظ الإِخبات يتعدى بإلى وباللام . فإذا قلت أخبت فلان إلى كذا فمعناه اطمأن إليه . وإذا قلت أخبت له فمعناه : خشع وخضع له . فقوله : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } إشارة إلى جميع أعمال الجوارح . وقوله : { وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ } إشارة إلى أعمال القلوب وهنى الخشوع والخضوع لله - تعالى - .
والمعنى : إن الذين آمنوا بالله - تعالى - إيمانا حقا وعملوا الأعمال الصالحات التى ترضيه - سبحانه - واطمأنوا إلى قضاء ربهم وخشعوا له أولئك الموصوفون بذلك هم أصحاب الجنة وهم الخالدون فيها خلودا أبديا وهم الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه .
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثَنَّى بذكر السُّعَداء ، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فآمنت قلوبهم وعَملت جوارحهم الأعمال الصالحة قولا وفعلا من الإتيان بالطاعات وترك المنكرات ، وبهذا ورثوا الجنات ، المشتملة على الغرف العاليات ، والسرر المصفوفات ، والقطوف الدانيات ، والفرش المرتفعات ، والحسان الخيرات ، والفواكه المتنوعات ، والمآكل المشتهيات{[14553]} والمشارب المستلذات ، والنظر إلى خالق الأرض والسموات ، وهم في ذلك خالدون ، لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون ، وينامون{[14554]} ولا يتغطَّون ، ولا يبصقون ولا يتمخطون ، إن هو إلا رَشْحُ مِسك يعرقون .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوَاْ إِلَىَ رَبّهِمْ أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ الجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إن الذين صَدَقوا الله ورسوله وعملوا في الدنيا بطاعة الله وأخبتوا إلى ربهم .
واختلف أهل التأويل في معنى الإخبات ، فقال بعضهم : معنى ذلك : وأنابوا إلى ربهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : إنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ وأخْبَتُوا إلى رَبّهِمْ قال : الإخبات : الإنابة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وأخْبَتُوا إلى رَبّهِمْ يقول : وأنابوا إلى ربهم .
وقال آخرون : معنى ذلك : وخافوا . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : وأخْبَتُوا إلى رَبّهِمْ يقول : خافوا .
وقال آخرون : معناه : اطمأنوا . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، وحدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وأخْبَتُوا إلى رَبّهِمْ قال : اطمأنوا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : معنى ذلك : خشعوا . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وأخْبَتُوا إلى رَبّهِمْ الإخبات : التخشع والتواضع .
قال أبو جعفر : وهذه الأقوال متقاربة المعاني وإن اختلفت ألفاظها ، لأن الإنابة إلى الله من خوف الله ، ومن الخشوع والتواضع لله بالطاعة ، والطمأنينة إليه من الخشوع له ، غير أن نفس الإخبات عند العرب الخشوع والتواضع . وقال : إلى رَبّهِمْ ومعناه : أخبتوا لربهم ، وذلك أن العرب تضع اللام موضع «إلى » و«إلى » موضع اللام كثيرا ، كما قال تعالى : بأنّ رَبّكَ أوْحَى لَهَا بمعنى : أوحى إليها . وقد يجوز أن يكون قيل ذلك كذلك ، لأنهم وصفوا بأنهم عمدوا بإخباتهم إلى الله .
وقوله : أُولَئِكَ أصحَابُ الجَنّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ يقول : هؤلاء الذين هذه صفتهم هم سكان الجنة الذين لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها ، ولكنهم فيها لابثون إلى غير نهاية .
و { أخبتوا } قيل معناه : خشعوا ، قاله قتادة ، وقيل : أنابوا ، قاله ابن عباس ، وقيل : اطمأنوا ، قاله مجاهد ، وقيل : خافوا ، قاله ابن عباس أيضاً ، وهذه الأقوال بعضها قريب من بعض ، وأصل اللفظ من الخبت ، وهو البراح القفر المستوي من الأرض ؛ فكأن المخبت في القفر قد انكشف واستسلم وبقي ذا منعة ، فشبه المتذلل الخاشع بذلك ، وقيل : إنما اشتق منه لاستوائه وطمأنينته .
وقوله { إلى ربهم } قيل : هي بمعنى اللام أي أخبتوا لربهم . وقيل : المعنى جعلوا قصدهم بإخباتهم إلى ربهم{[6299]} .
لما ذكر أحوال البالغين أقصى غايات الخسارة ذكر مقابلهم الذين بلغوا أعلى درجات السعادة . فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن النفوس تشرئب عند سماع حكم الشيء إلى معرفة حكم ضده .
والإخبات : الخضوع والتواضع ، أي أطاعوا ربهم أحسن طاعة .
وموقع { أولئك } هنا مثل موقعه في الآية قبلها .
وجملة { هم فيها خالدون } في موقع البيان لجملة { أصحاب الجنة } لأن الخلود في المكان هو أحق الأحوال بإطلاق وصف الصاحب على الحالّ بذلك المكان إذ الأمكنة لا تقصد إلاّ لأجل الحلول فيها فتكون الجملة مستأنفة لبيان ما قبلها فمنزلتها منزلة عطف البيان ، ولا تعرب في موضع خبر ثان عن اسم الإشارة . وقد تقدم نظيرها في سورة [ البقرة : 82 ] في قوله : { والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدُون } فعُد إليه وزد إليه ما هنا .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.