ثم يزيدون توبيخهم وتبكيتهم فيقولون لهم : { أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } .
أى : أن أصحاب الأعراف يشيرون إلى أهل الجنة من الفقراء والذين كانوا مستضعفين في الأرض ثم يقولون لرءوس الكفر الذين كانوا يعذبونهم : أهؤلاء الذين أقسمتم في الدنيا أن الله - تعالى - لا ينالهم برحمة في الآخرة لأنه لم يعطهم في الدنيا مثل ما أعطاكم من مال وبنين وسلطان .
وهنا ينادى مناد من قبل الله - تعالى - على هؤلاء الفقراء فيقول لهم : { ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } .
أى : ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في المستقبل ، ولا أنتم تحزنون على ما خلفتموه في الدنيا .
وقيل : إن قوله - تعالى - : { ادخلوا } . من كلام أصحاب الأعراف - أيضاً ، فكأنهم التفتوا إلى أولئك المشار إليهم من أهل الجنة وقالوا لهم : امكثوا في الجنة غير خائفين ولا محزونين على أكمل سرور وأتم كرامة .
قال الله [ تعالى ]{[11788]} لأهل التكبر والأموال : { أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ }
وقال{[11789]} حذيفة : إن أصحاب الأعراف قوم تكافأت أعمالهم ، فقصرت بهم حسناتهم عن الجنة ، وقصرت بهم سيئاتهم عن النار ، فجُعلوا على الأعراف ، يعرفون الناس بسيماهم ، فلما قضى الله بين العباد أذن لهم في طلب الشفاعة ، فأتوا آدم فقالوا : يا آدم ، أنت أبونا ، فاشفع لنا عند ربك . فقال : هل تعلمون أن أحدًا خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وسبقت رحمته إليه غضبَه ، وسجدت له الملائكة غيري ؟ فيقولون : لا . [ قال ]{[11790]} فيقول : ما علمت كنهه ، ما أستطيع أن أشفع لكم ، ولكن ائتوا ابني إبراهيم . فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم{[11791]} فيسألونه أن يشفع لهم عند ربهم ، فيقول : [ هل ]{[11792]} تعلمون من أحد اتخذه الله خليلا ؟ هل تعلمون أن أحدًا أحرقه قومه بالنار في الله غيري ؟ فيقولون : لا . فيقول : ما علمت كنهه ، ما أستطيع أن أشفع لكم . ولكن ائتوا ابني موسى . فيأتون موسى ، عليه السلام ، [ فيقولون : اشفع لنا عند ربك ]{[11793]} فيقول : هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليمًا وقربه نجيًا غيري ؟ فيقولون : لا فيقول : ما علمت كنهه ، ما أستطيع أن أشفع لكم ، ولكن ائتوا عيسى . فيأتونه ، عليه السلام ، فيقولون له : اشفع لنا عند ربك . فيقول : هل تعلمون أحدًا خلقه الله من غير أب غيري ؟ فيقولون : لا . فيقول : هل تعلمون من أحد كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله غيري ؟ قال : فيقولون : لا . فيقول : أنا حجيج نفسي . ما علمت كنهه ، ما أستطيع أن أشفع لكم . ولكن ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيأتونني{[11794]} فأضرب بيدي على صدري ، ثم أقول : أنا لها . ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش ، فآتي ربي ، عز وجل ، فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قط ، ثم أسجد فيقال لي : يا محمد ، ارفع رأسك ، وسل تُعطه ، واشفع تشفع . فأرفع رأسي ، فأقول : ربي أمتي . فيقول : هم لك . فلا يبقى نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، إلا غبطني بذلك المقام ، وهو المقام المحمود . فآتي بهم الجنة ، فأستفتح فيفتح لي ولهم ، فيذهب بهم إلى نهر يقال له : نهر الحيوان ، حافتاه قصب مكلل باللؤلؤ ، ترابه المسك ، وحصباؤه الياقوت . فيغتسلون منه ، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة ، وريح [ أهل الجنة ]{[11795]} فيصيرون كأنهم الكواكب الدرية ، ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها ، يقال لهم : مساكين أهل الجنة " {[11796]}
القول في تأويل قوله تعالى : { أَهََؤُلآءِ الّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } .
اختلف أهل التأويل في المعنيين بهذا الكلام ، فقال بعضهم : هذا قيل الله لأهل النار توبيخا لهم على ما كان من قيلهم في الدنيا لأهل الأعراف عند إدخاله أصحاب الأعراف الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : أصحاب الأعراف : رجال كانت لهم ذنوب عظام ، وكان حَسْمُ أمرهم لله ، يقومون على الأعراف ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة طمعوا أن يدخلوها ، وإذا نظروا إلى أهل النار تعوّذوا بالله منها ، فأدخلوا الجنة . فذلك قوله تعالى : أهَؤُلاءِ الّذِينَ أقْسَمْتُمْ لا يَنالُهمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ يعني أصحاب الأعراف ، ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : قال ابن عباس : إن الله أدخل أصحاب الأعراف الجنة لقوله : ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : قال الله لأهل التكبر والأموال : أهَؤُلاءِ الّذِينَ أقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمْ اللّهُ بِرَحْمَةِ يعني أصحاب الأعراف ، ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : أهَؤُلاءِ الضعفاء الّذِينَ أقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ . قال : فقال حُذيفَة : «أصحَابُ الأعْرَافِ قَوْمٌ تَكافَأتْ أعْمالُهُمْ فَقَصّرَتْ بِهِمْ حَسنَاتُهُمْ عَنِ الجَنّةِ ، وَقَصّرَتْ بِهِمْ سَيّئاتُهُمْ عَنِ النارِ ، فَجُعلُوا على الأعْرَافِ يَعْرِفونَ النّاسَ بِسِيماهُمْ . فَلَمّا قُضِيَ بينَ العِبادِ ، أُذِنَ لَهُمْ فِي طَلَبِ الشّفاعَةِ ، فَأتَوْا آدَمَ عَلَيْهِ السّلامُ ، فَقالُوا : يا آدَمُ أنْتَ أبُونا فاشْفَعْ لَنا عِنْدَ رَبّكَ فَقالَ : هَلْ تَعْلَمُونَ أحَدا خَلَقَه اللّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَسَبَقَتْ رَحْمَةُ اللّهِ إلَيْهِ غَضَبَهُ وَسجَدَتْ لَهُ المَلائِكَةُ غيرِي ؟ فَيَقُولُونَ لا . قال : فَيَقُولُ : ما عَلِمتُ كُنْهَ ما أسْتَطِيعُ أنْ أشْفَعَ لَكُمْ ، وَلَكِنْ ائْتُوا ابْنِي إبْرَاهِيمَ قال : فَيَأْتُونَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلامُ ، فَيَسأَلُونَهُ أنْ يَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ رَبّهِ ، فَيَقُولُ هَلْ تَعْلَمُونَ مِنْ أحَدٍ اتّخَذَهُ اللّهُ خَلِيلاً ؟ هَلْ تَعْلَمونَ أحَدا أحْرَقَهُ قَوْمُهُ فِي النّارِ فِي الله غيرِي ؟ فَيَقُولونَ : لا فَيَقُولُ : ما عَلِمْتُ كُنْهَ ما أسْتَطِيعُ أنْ أشْفَعَ لَكُمْ ، وَلَكِنِ ائْتُوا ابني موسى فَيَأْتُونَ مِوسَى عَلَيْهِ السّلامُ ، فَيَقُولُ : هَلْ تَعْلَمُونَ مِنْ أحَدٍ كَلّمَهُ اللّهُ تَكْلِيما وَقَرّبَهُ نَجِيّا غيرِي ؟ فَيَقُولُونَ : لا ، فَيَقُولُ : ما عَلِمْتُ كُنْهَ ما أسْتَطِيعُ أنْ أشْفَعَ لَكُمْ ، وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسَى فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ : اشْفَعْ لَنا عِنْدَ رَبّكَ فَيَقُولُ : هَلْ تَعْلَمُونَ أحدا خَلَقَهُ اللّهُ مِنْ غيرِ أبٍ غَيرِي ؟ فَيَقُولُونَ : لا ، فَيَقُولُ : هَلْ تَعْلَمُونَ مِنْ أحَدٍ كانَ يُبْرِىءُ الأكْمَه وَالأبْرَصَ ويُحْيِي المَوْتى بإذْن اللّهِ غيرِي ؟ قال : فَيَقُولُونَ : لا ، قالَ : فَيَقُولُ : أنا حَجِيجُ نَفْسِي ، ما عَلِمْتُ كُنْهَ ما أسْتَطِيعُ أنْ أشْفَعَ لَكُمْ ، وَلَكِنِ ائْتُوا محمدا رسْولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «فَيَأْتُونِي ، فَأضْرِبُ بِيَدِي على صَدْرِي ثُمّ أقُولُ : أنا لَهَا . ثُمّ أمْشِي حتى أقِفَ بينَ يَدَيَ العَرْشِ ، فَأُثْنِي عَلى رَبي ، فَيَفْتَحُ لي مِنَ الثّناء ما لَمْ يَسْمَعِ السّامِعُونَ بِمِثْلِهِ قَطّ ، ثُمّ أسْجُدَ فَيُقالُ لي : يا مُحَمّدُ ارْفَعْ رأسَكَ ، سَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفّعْ فَأرْفَعُ رأسِي فَأقُولُ : رَبّ أُمّتِي فَيُقالُ : هُمْ لَكَ . فَلا يَبْقَى نَبِيّ مُرْسَلٌ وَلا مَلَكٌ مُقَرّبٌ إلاّ غَبَطَنِي يَوْمَئِذٍ بذلكَ المَقامِ ، وَهُوَ المَقامُ المَحْمودُ » . قالَ : «فَآتي بِهِمْ بابَ الجَنّةِ فأسْتَفْتِحُ ، فَيُفْتَحُ لي ولَهُمْ ، فَيُذْهَبُ بِهِمْ إلى نَهْرٍ يُقالُ لَهُ نَهْرُ الحَياةِ ، حافَتاهُ قُضُبٌ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلّلٍ باللُؤْلُؤٍ ، تُرَابُهُ المِسْكُ ، وَحَصْباؤُهُ الياقُوتُ ، فَيَغْتَسِلُونَ مِنْهُ ، فَتَعُودُ إلَيْهِمْ ألْوَانُ أهْلِ الجَنّةِ وَرِيحُهُمْ ، وَيَصِيرُونَ كأنّهُمُ الكَوَاكِبُ الدّرّيّةِ ، وَيَبْقَى فِي صُدُرِهِمْ شاماتٌ بِيضٌ يُعْرَفُونَ بِها ، يُقال لَهُمْ مَساكِينُ أهْلِ الجَنّةِ » .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، قال : إن الله أدخلهم بعد أصحاب الجنة ، وهو قوله : ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ يعني أصحاب الأعراف . وهذا قول ابن عباس .
فتأويل الكلام على هذا التأويل الذي ذكرنا عن ابن عباس ، ومن ذكرنا قوله فيه : قال الله لأهل التكبر عن الإقرار بوحدانية الله والإذعان لطاعته وطاعة رسله الجامعين في الدنيا الأموال مكاثرة ورياء : أيها الجبابرة الذين كانوا في الدنيا ، أهؤلاء الضعفاء الذين كنتم في الدنيا أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ؟ قال : قد غفرت لهم ورحمتهم بفضلي ورحمتي ، ادخلوا يا أصحاب الأعراف الجنة ، لا خوف عليكم بعدها من عقوبة تعاقبون بها على ما سلف منكم في الدنيا من الاَثام والإجرام ، ولا أنتم تحزنون على شيء فاتكم في دنياكم
وقال أبو مجلز : بل هذا القول خبر من الله عن قيل الملائكة لأهل النار بعد ما دخلوا النار تعييرا منهم لهم على ما كانوا يقولون في الدنيا للمؤمنين الذين أدخلهم الله يوم القيامة جنته . وأما قوله : ادْخُلُوا الجَنّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أنْتُمْ تَحْزَنُونَ فخبر من الله عن أمره أهل الجنة بدخولها .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلية ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مجلز ، قال : نادت الملائكة رجالاً في النار يعرفونهم بسيماهم : ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ؟ قال : فهذا حين يدخل أهل الجنة الجنة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون .