وقوله : { فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ } . . بيان لموقفهم الجحودى من عطاء الله وكرمه .
أى : فلما أعطى الله - تعالى - من فضله هؤلاء المنافقين ما منوه من مال وفير " بخلوا به " أى : بخلوا بهذا المال ، فلم ينفقوا منه شيئا في وجوهه المشروعة ، ولم يعترفوا فيه بحققو الله أو حقوق الناس ، ولم يكتفوا بذلك بل { وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } .
أى : أدبروا عن طاعة الله وعن فعل الخير ، وهم قوم دأبهم التولى عن سماع الحق ، وشأنهم الانقياد للهوى والشيطان .
( فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ )
فلما أن استجاب اللّه له ورزقه من فضله نسي عهده ، وتنكر لوعده ، وأدركه الشح والبخل فقبض يده ، وتولى معرضاً عن الوفاء بما عاهد . فكان هذا النكث بالعهد مع الكذب على اللّه فيه سبباً في التمكين للنفاق في قلبه ، والموت مع هذا النفاق ، ولقاء اللّه به .
والنفس البشرية ضعيفة شحيحة ، إلا من عصم اللّه ؛ ولا تطهر من هذا الشح إلا أن تعمر بالإيمان ، وترتفع على ضرورات الأرض ، وتنطلق من قيود الحرص على النفع القريب ، لأنها تؤمل في خلف أعظم ، وتؤمل في رضوان من اللّه أكبر . والقلب المؤمن يطمئن بالإيمان ، فلا يخشى الفقر بسبب الإنفاق ، لأنه يثق بأن ما عند الناس ينفد وما عند اللّه باق . وهذا الاطمئنان يدفع به إلى إنفاق المال في سبيل اللّه تطوعاً ورضى وتطهراً ، وهو آمن مغبته . فحتى لو فقد المال وافتقر منه ، فإن له عوضاً أعظم عند اللّه .
فأما حين يقفر القلب من الإيمان الصحيح ، فالشح الفطري يهيج في نفسه كلما دعي إلى نفقة أو صدقة ، والخوف من الفقر يتراءى له فيقعد به عن البذل . ثم يبقى سجين شحه وخوفه بلا أمن ولا قرار .
يقول تعالى : ومن المنافقين من أعطى الله عهده وميثاقه : لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله ، وليكونن من الصالحين . فما وفى بما قال ، ولا صدق فيما ادعى ، فأعقبهم هذا الصنيع نفاقا سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون{[13689]} الله ، عز وجل ، يوم القيامة ، عياذا بالله من ذلك .
وقد ذكر كثير من المفسرين ، منهم ابن عباس ، والحسن البصري : أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في " ثعلبة بن حاطب الأنصاري " .
وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير هاهنا وابن أبي حاتم ، من حديث مُعان{[13690]} بن رِفَاعة ، عن علي بن يزيد ، عن أبي عبد الرحمن القاسم بن عبد الرحمن ، مولى عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري ، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يرزقني مالا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه " . قال : ثم قال مرة أخرى ، فقال : " أما ترضى أن تكون مثل نبي الله ، فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهبا وفضة لسارت " . قال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم ارزق ثعلبة مالا " . قال : فاتخذ غنما ، فنمت كما ينمو الدود ، فضاقت عليه المدينة ، فتنحى عنها ، فنزل واديا من أوديتها ، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ، ويترك ما سواهما . ثم نمت وكَثُرت ، فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود ، حتى ترك الجمعة . فطفق يتلقى الركبان{[13691]} يوم الجمعة ، يسألهم عن الأخبار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما فعل ثعلبة " ؟ فقالوا : يا رسول الله ، اتخذ غنما فضاقت عليه المدينة . فأخبروه بأمره فقال : " يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة ، يا ويح ثعلبة " . وأنزل الله جل ثناؤه : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } الآية [ التوبة : 103 ] قال : ونزلت عليه فرائض الصدقة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة : رجلا من جُهَيْنَة ، ورجلا من سليم ، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة من المسلمين ، وقال لهما : " مُرا بثعلبة ، وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما " . فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا جزية . ما هذه إلا أخت الجزية . ما أدري ما هذا انطلقا حتى تفرُغا ثم عُودا إلي . فانطلقا وسمع بهما السلمي ، فنظر إلى خيار أسنان إبله ، فعزلها للصدقة ، ثم استقبلهما{[13692]} بها فلما رأوها قالوا : ما يجب عليك هذا ، وما نريد أن نأخذ هذا منك . قال : بلى ، فخذوها ، فإن نفسي بذلك طيبة ، وإنما هي له . فأخذوها منه . فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مَرَّا بثعلبة ، فقال : أروني كتابكما فنظر فيه ، فقال : ما هذه إلا أخت الجزية . انطلقا حتى أرى رأيي . فانطلقا حتى أتيا النبي{[13693]} صلى الله عليه وسلم ، فلما رآهما قال : " يا ويح ثعلبة " قبل أن يكلمهما ، ودعا للسلمي بالبركة ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي ، فأنزل الله ، عز وجل : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } إلى قوله : { وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } قال : وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة ، فسمع ذلك ، فخرج حتى أتاه فقال : ويحك يا ثعلبة . قد أنزل الله فيك كذا وكذا . فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يقبل منه صدقته ، فقال : " إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك " . فجعل يحثو على رأسه التراب ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " [ هذا ]{[13694]} عملك ، قد أمرتك فلم تطعني " . فلما أبى أن يقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى منزله ، فقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئا . ثم أتى أبا بكر ، رضي الله عنه ، حين استخلف ، فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله ، وموضعي من الأنصار ، فاقبل صدقتي . فقال أبو بكر : لم يقبلها منك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبى أن يقبلها ، فقبض أبو بكر ولم يقبلها . فلما وَلِي عمر ، رضي الله عنه ، أتاه فقال : يا أمير المؤمنين ، اقبل صدقتي . فقال : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ، وأنا{[13695]} أقبلها منك ! فقبض ولم يقبلها ؛ ثم ولي عثمان ، رضي الله عنه ، [ فأتاه ]{[13696]} فسأله أن يقبل صدقته ، فقال : لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ، وأنا أقبلها منك ! فلم يقبلها منه ، وهلك ثعلبة في خلافة عثمان{[13697]}
قيل : نزلت في ثعلبة بن حاطب من المنافقين سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بسعة الرزق فدعا له فأثرى إثرَاءً كثيراً فلمّا جاءه المصدّقون ليعطي زكاة أنعامه امتنع من ذلك ثم ندم فجاء بصدقته فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبلها منه . وذكروا من قصته أنّه تاب ولكن لم تقبل صدقته في زمن النبي ولا في زمن الخلفاء الثلاثة بعده عقوبة له وإظهاراً للاستغناء عنه حتّى مات في خلافة عثمان ، وقد قيل : إنّ قائل ذلك هو معتِّب بن قشير ، وعلى هذا فضمائر الجمع في لنصدّقنّ وما بعده مراد بها واحد وإنّما نسبت الفعل إلى جماعة المنافقين على طريقة العرب في إلصاق فعل الواحد بقبيلته . ويحتمل أنّ ثعلبة سأل ذلك فتبعه بعض أصحابه مثل معتب بن قشير فأوتي مثل ما أوتي ثعلبة وبخل مثل ما بخل وإن لم تجىء فيه قصة كما تقدّم آنفاً .
وجملة { لنصدقن } بيان لجملة { عاهد الله } وفعل { لنصدقن } أصله لنتصدقن فأدغم للتخفيف .