المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ} (226)

226- وأنهم يقولون بألسنتهم ما لا يلتزمونه في عملهم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ} (226)

وقوله - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } تأكيد لما قبله ، من كون الشعراء يتبعهم الغاوون . والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية والمعرفة .

والوادى : هو المكان المتسع . والمراد به هنا : فنون القول وطرقه .

ويهيمون : من الهيام وهو أن يذهب المرء على وجهه دون أن يعرف له جهة معينة يقصدها .

يقال : هام فلان على وجهه ، إذا لم يكن له مكان معين يقصده . والهيام داء يستولى على الإبل فيجعلها تشرد عن صاحبها بدون وقوف فى مكان معين ، ومنه قوله - تعالى - : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } أى : الجمال العطاش الشاردة .

والمعنى : ألم تر - أيها العاقل - أن هؤلاء الشعراء فى كل فن من فنون الكذب فى الأقوال يخوضون ، وفى كل فج من فجاج الباطل والعبث والفحش يتكلمون ، وأنهم فوق ذلك يقولون مالا يفعلون ، فهم يحضون غيرهم على الشىء ولا يفعلونه ، وهم يقولون فعلنا كذا وفعلنا كذا - على سبيل التباهى والتفاخر - مع أنهم لم يفعلوا .

قال صاحب الكشاف : ذكر الوادى والهيوم : فيه تمثيل لذهابهم فى كل شعب من القول واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو فى المنطق ومجاوزة حد القصد فيه ، حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة وأشحهم على حاتم ، وأن يبهتوا البرىء ، ويفسقوا التقى .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ} (226)

192

وهم يقولون ما لا يفعلون . لأنهم يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم ، يؤثرونها على واقع الحياة الذي لا يعجبهم ! ومن ثم يقولون أشياء كثيرة ولا يفعلونها ، لأنهم عاشوها في تلك العوالم الموهومة ، وليس لها واقع ولا حقيقة في دنيا الناس المنظورة !

إن طبيعة الإسلام - وهو منهج حياة كامل معد للتنفيذ في واقع الحياة ، وهو حركة ضخمة في الضمائر المكنونة وفي أوضاع الحياة الظاهرة - إن طبيعة الإسلام هذه لا تلائمها طبيعة الشعراء كما عرفتهم البشرية - في الغالب - لأن الشاعر يخلق حلما في حسه ويقنع به . فأما الإسلام فيريد تحقيق الحلم ويعمل على تحقيقه ، ويحول المشاعر كلها لتحقق في عالم الواقع ذلك النموذج الرفيع .

والإسلام يحب للناس أن يواجهوا حقائق الواقع ولا يهربوا منها إلى الخيال المهوم . فإذا كانت هذه الحقائق لا تعجبهم ، ولا تتفق مع منهجه الذي يأخذهم به ، دفعهم إلى تغييرها ، وتحقيق المنهج الذي يريد .

ومن ثم لا تبقى في الطاقة البشرية بقية للأحلام المهومة الطائرة . فالإسلام يستغرق هذه الطاقة في تحقيق الأحلام الرفيعة ، وفق منهجه الضخم العظيم .

ومع هذا فالإسلام لا يحارب الشعر والفن لذاته - كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ . إنما يحارب المنهج الذي سار عليه الشعر والفن . منهج الأهواء والانفعالات التي لا ضابط لها ؛ ومنهج الأحلام المهومة التي تشغل أصحابها عن تحقيقها . فأما حين تستقر الروح على منهج الإسلام ، وتنضح بتأثراتها الإسلامية شعرا وفنا ؛ وتعمل في الوقت ذاته على تحقيق هذه المشاعر النبيلة في دنيا الواقع ؛ ولا تكتفي بخلق عوالم وهمية تعيش فيها ، وتدع واقع الحياة كما هو مشوها متخلفا قبيحا !

وأما حين يكون للروح منهج ثابت يهدف إلى غاية إسلامية ، وحين تنظر إلى الدنيا فتراها من زاوية الإسلام ، في ضوء الإسلام ، ثم تعبر عن هذا كله شعرا وفنا .

فأما عند ذلك فالإسلام لا يكره الشعر ولا يحارب الفن ، كما قد يفهم من ظاهر الألفاظ .

ولقد وجه القرآن القلوب والعقول إلى بدائع هذا الكون ، وإلى خفايا النفس البشرية . وهذه وتلك هي مادة الشعر والفن . وفي القرآن وقفات أمام بدائع الخلق والنفس لم يبلغ إليها شعر قط في الشفافية والنفاذ والاحتفال بتلك البدائع وذلك الجمال .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ} (226)

وقوله : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } قال العوفي ، عن ابن عباس : كان رجلان على عهد رسول الله ، أحدهما من الأنصار ، والآخر من قوم آخرين ، وإنهما تهاجيا ، فكان{[21930]} مع كل واحد منهما غواة من قومه - وهم{[21931]} السفهاء - فقال الله تعالى : { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أكثر قولهم يكذبون فيه .

وهذا الذي قاله ابن عباس ، رضي الله عنه ، هو الواقع في نفس الأمر ؛ فإن الشعراء يتَبجَّحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم ، فيتكثرون بما ليس لهم ؛ ولهذا اختلف العلماء ، رحمهم الله ، فيما إذا اعترف الشاعر في شعره بما يوجب حَدًّا : هل يقام عليه بهذا الاعتراف أم لا لأنهم يقولون ما لا يفعلون ؟ على قولين . وقد ذكر محمد بن إسحاق ، ومحمد بن سعد في الطبقات ، والزبير بن بَكَّار في كتاب الفكاهة : أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، استعمل النعمان بن عدي بن نَضْلَة على " ميسان " - من أرض البصرة - وكان يقول الشعر ، فقال :

ألا هَل أتَى الحَسْنَاءَ أنّ حَليِلَها *** بِمَيْسَانَ ، يُسقَى في زُجاج وَحَنْتَم

إذَا شئْتُ غَنَّتْني دَهاقينُ قَرْيَة *** وَرَقَّاصَةٌ تَجذُو على كل مَنْسم{[21932]}

فإنْ كُنتَ نَدْمانِي فَبالأكْبر اسْقني *** وَلا تَسْقني بالأصْغَر المُتَثَلم{[21933]}

لَعَل أميرَ المؤمنينَ يَسُوءه *** تَنادُمُنا بالجَوْسَق المُتَهَدَم

فلما بلغ [ ذلك ]{[21934]} أمير المؤمنين قال : أي والله ، إنه ليسوءني ذلك ، ومن لقيه فليخبره أني قد عزلته . وكتب إليه : بسم الله الرحمن الرحيم { حم . تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ . غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ } [ غافر : 1 - 3 ] أما بعد فقد بلغني قولك :

لَعَلَّ أمير المُؤمنينَ يَسُوُءه *** تَنَادُمُنَا بالجَوْسق{[21935]} المُتَهَدّم

وايم الله ، إنه ليسوءني وقد عزلتك . فلما قدم على عمر بَكَّتَه بهذا الشعر ، فقال : والله - يا أمير المؤمنين - ما شربتها قَطّ ، وما ذاك الشعر إلا شيء طَفح على لساني . فقال عمر : أظن ذلك ، ولكن والله لا تعمل لي على عمل أبدًا ، وقد قُلتَ ما قلتَ{[21936]} .

فلم يُذكر أنه حَدّه على الشراب ، وقد ضمنه شعره ؛ لأنهم يقولون ما لا يفعلون ، ولكنه{[21937]} ذمَّه عمر ، رضي الله عنه ، ولامه على ذلك وعزله به . ولهذا جاء في الحديث : " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا ، يَرِيه خير له من أن يمتلئ شعرًا " {[21938]} .

والمراد من هذا : أن{[21939]} الرسول صلى الله عليه وسلم{[21940]} الذي أنزل عليه{[21941]} القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر ؛

لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة ، كما قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } [ يس : 69 ] وقال تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ . وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ . تَنزيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [ الحاقة : 40 - 43 ] ، وهكذا قال هاهنا : { وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ . نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ . عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ . بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } إلى أن قال : { وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ . إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } إلى أن قال : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ . تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ . يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ . وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ . أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ . وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ } .


[21930]:- في ف : "وكان".
[21931]:- في ف : "فهم".
[21932]:- في ف ، أ : "مبسم".
[21933]:- في ف : "المتلثم".
[21934]:- زيادة من ف ، أ.
[21935]:- في ف ، أ : "في الجوسق".
[21936]:- الأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (2/266) والطبقات الكبرى لابن سعد (4/140).
[21937]:- في ف : "ولكن".
[21938]:- رواه مسلم في صحيحه برقم (2257) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[21939]:- في ف ، أ : "أن هذا الرسول".
[21940]:- في ف ، أ : "صلوات الله وسلامه عليه".
[21941]:- في ف ، أ : "عليه هذا القرآن".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَنَّهُمۡ يَقُولُونَ مَا لَا يَفۡعَلُونَ} (226)

وقوله ، { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } ، ذكر لتعاطيهم وتعمقهم في مجاز الكلام حتى يؤول إلى الكذب ، وفي هذا اللفظ عذر لبعضهم أحياناً فإنه يروى أن النعمان بن عدي لما ولاه عمر بن الخطاب ميسان وقال لزوجته الشعر المشهور عزله عمر فاحتج عليه بقوله تعالى : { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } فدرأ عنه عمر الحد في الخمر{[8973]} ، وروى جابر ابن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «من مشى سبع خطوات في شعر كتب من الغاوين » ذكره أسد بن موسى وذكره النقاش .


[8973]:النعمان بن عدي بن نضلة، ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولاية ميسان، فقال شعرا جاء فيه: من مبلغ الحسناء أن حليلها بميسان يسقى في زجاج وحنتم إذا شئت غنتني دهاقين قرية ورقاصة تجذو على كل منسم فإن كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوؤه تنادمنا بالجوسق المتهدم فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرسل إليه بالقدوم، فلما قدم قال له: أي والله إنه ليسوؤني ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين، ما فعلت شيئا مما قلت، وإنما كان من فضلة القول، وقد قال الله تعالى: {والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون}، فقال له عمر رضي الله عنه: أما عذرك فقد درأ عنك الحد، ولكن لا تعمل لي أبدا وقد قلت ما قلت. وقد روي أن سليمان بن عبد الملك سمع قول الفرزدق: فبتن بجانبي مصرعات وبت أفض أغلاق الختام فقال له: قد وجب عليك الحد، قال الفرزدق: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله: {وأنهم يقولون ما لا يفعلون}.