والخطاب فى قوله - تعالى - : { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ } للرسول صلى الله عليه وسلم والضمير المنصوب " هم " للمشركين .
والغمرة فى الأصل : الماء الذى يغمر القامة ويسترها ، إذ المادة تدل على التغطية والستر .
يقال : غمر الماء الأرض إذا غطاها وسترها . ويقال : هذا رجل غُمْر - بضم الغين وإسكان الميم - إذا غطاه الجهل وجعله لا تجربة له بالأمور . ويقال : هذا رجل غِمْر - بكسر الغين - إذا غطى الحقد قلبه والمراد بالغمرة هنا : الجهالة والضلالة ، والمعنى : لقد أديت - أيها الرسول - الرسالة ، ونصحت لقومك . وبلغتهم ما أمرك الله - تعالى - بتبليغه ، وعليك الآن أن تترك هؤلاء الجاحدين المعاندين فى جهالاتهم وغفلتهم وحيرتهم { حتى حِينٍ } أى : حتى يأتى الوقت الذى حددناه للفصل فى أمرهم بما تقتضيه حكمتنا .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتّىَ حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنّمَا نُمِدّهُمْ بِهِ مِن مّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاّ يَشْعُرُونَ } .
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فدع يا محمد هؤلاء الذين تقطّعوا أمرهم بينهم زبرا ، في غَمْرَتِهِمْ في ضلالتهم وغيهم ، حَتّى حِينٍ يعني إلى أجل سيأتيهم عند مجيئه عذابي .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد : فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ قال : في ضلالهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَذَرْهُم فِي غَمْرَتِهِمْ حتى حِينٍ قال : الغَمْرة : الغَمْر .
ثم ذكر تعالى أن كل فريق منهم معجب برأيه وضلالته وهذه غاية الضلال لأن المرتاب بما عنده ينظر في طلب الحق ومن حيث كان ذكر الأمم في هذه الآية مثالاً لقريش خاطب محمداً عليه السلام في شأنهم متصلاً بقوله { فذرهم } أي فذر هؤلاء الذين هم بمنزلة من تقدم و «الغمرة » ، ما عمهم من ضلالهم وفعل بهم فعل الماء الغمر{[8501]} لما حصل فيهم ، وقرأ عبد الرحمن «في غمراتهم » ، و { حتى حين } أي إلى وقت فتح فيهم غير محدود وفي هذه الآية موادعة منسوخة بآية السيف .
انتقال بالكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وضمير الجمع عائد إلى معروف من السياق وهم مشركو قريش فإنهم من جملة الأحزاب الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبراً ، أو هم عينهم : فمنهم من اتخذ إلهه العزى . ومنهم من اتخذ مناة ، ومنهم من اتخذ ذا الخلصة إلى غير ذلك .
والكلام ظاهره المتاركة ، والمقصود منه الإملاء لهم وإنذارهم بما يستقبلهم من سوء العاقبة في وقت ما . ولذلك نكر لفظ { حين } المجعول غاية لاستدراجهم ، أي زمن مبهم ، كقوله : { لا تأتيكم إلا بغتة } [ الأعراف : 187 ] .
والغمرة حقيقتها : الماء الذي يغمر قامة الإنسان بحيث يغرقه . وتقدم في قوله تعالى : { ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت } في سورة الأنعام ( 93 ) . وإضافتها إلى ضميرهم باعتبار ملازمتها إياهم حتى قد عرفت بهم ، وذلك تمثيل لحال اشتغالهم بما هم فيه من الازدهار وترف العيش عن التدبر فيما يدعوهم إليه الرسول لينجيهم من العقاب بحال قوم غمرهم الماء فأوشكوا على الغرق وهم يحسبون أنهم يَسْبحون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ذكر كفار مكة، فقال تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {فذرهم في غمرتهم حتى حين}، يقول: خل عنهم في غفلتهم إلى أن أقتلهم ببدر.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فدع يا محمد هؤلاء الذين تقطّعوا أمرهم بينهم زبرا، "في غَمْرَتِهِمْ": في ضلالتهم وغيهم، "حَتّى حِينٍ "يعني إلى أجل سيأتيهم عند مجيئه عذابي..
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
: {فذرهم في غمرتهم حتى حين} كقوله في آية أخرى: {فذرهم يخوضوا ويلعبوا} (الزخرف: 83) وقوله: {ويذرهم في طغيانهم يعمهون} (الأعراف: 186)، فذلك يحتمل وجوها: أحدها: قال ذلك عند الإياس من إجابتهم لما علم أنهم لا يؤمنون؛ وذلك في قوم مخصوصين، كأنه قال: ذر هؤلاء، واقبل هؤلاء الذين يقبلون بأمرك، ويجيبون دعاءك، ويسمعونه. والثاني: {فذرهم في غمرتهم} ولا تكافئهم حتى أنا أكافئهم كقوله: {فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون} (الطور: 45). والثالث: أمره أن يذرهم، ويعرض عنهم لئلا يخوضوا في سب الله والطعن في الآية كقوله: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا...} الآية (الأنعام: 86).
{حتى حين} يحتمل القيامة، ويحتمل وقتا آخر، لم يبين، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إنَّ مدةَ أَخْذِهم لقريبةٌ، والعقوبة عليهم -إذا أُخِذُوا- لشديدة، ولسوف يتبين لهم خطؤهم من صوابهم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الغمرة: الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلاً لما هم مغمورون فيه من جهلهم وعمايتهم، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل.
ولما ذكر الله تعالى تفرق هؤلاء في دينهم أتبعه بالوعيد، وقال: {فذرهم في غمرتهم} حتى حين الخطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم يقول: فدع هؤلاء الكفار في جهلهم، والغمرة الماء الذي يغمر القامة فكأن ما هم فيه من الجهل والحيرة صار غامرا ساترا لعقولهم...
{حتى حين} وذكروا في الحين وجوها؛
والعادة في ذلك أن يذكر في الكلام، والمراد به الحالة التي تقترن بها الحسرة والندامة، وذلك يحصل إذا عرفهم الله بطلان ما كانوا عليه وعرفهم سوء منقلبهم، ويحصل أيضا عند المحاسبة في الآخرة، ويحصل عند عذاب القبر والمساءلة فيجب أن يحمل على كل ذلك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فذرهم} أي اتركهم على شر حالاتهم {في غمرتهم} أي الضلالة التي غرقوا فيها {حتى حين} أي إلى وقت ضربناه لهم من قبل أن نخلقهم ونحن عالمون بكل ما يصدر منهم على أنه وقت يسير.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وحين يرسم لهم هذه الصورة يتوجه بالخطاب إلى الرسول [صلى الله عليه وسلم]:
ذرهم في هذه الغمرة غافلين مشغولين بما هم فيه، حتى يفجأهم المصير حين يجيء موعده المحتوم.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال بالكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وضمير الجمع عائد إلى معروف من السياق وهم مشركو قريش فإنهم من جملة الأحزاب الذين تقطعوا أمرهم بينهم زبراً، أو هم عينهم: فمنهم من اتخذ إلهه العزى. ومنهم من اتخذ مناة، ومنهم من اتخذ ذا الخلصة إلى غير ذلك. والكلام ظاهره المتاركة، والمقصود منه الإملاء لهم وإنذارهم بما يستقبلهم من سوء العاقبة في وقت ما. ولذلك نكر لفظ {حين} المجعول غاية لاستدراجهم، أي زمن مبهم، كقوله: {لا تأتيكم إلا بغتة} [الأعراف: 187]. والغمرة حقيقتها: الماء الذي يغمر قامة الإنسان بحيث يغرقه. وتقدم في قوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} في سورة الأنعام (93). وإضافتها إلى ضميرهم باعتبار ملازمتها إياهم حتى قد عرفت بهم، وذلك تمثيل لحال اشتغالهم بما هم فيه من الازدهار وترف العيش عن التدبر فيما يدعوهم إليه الرسول لينجيهم من العقاب بحال قوم غمرهم الماء فأوشكوا على الغرق وهم يحسبون أنهم يَسْبحون.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{حتى حين} إلى حين ليس ببعيد، وإنه لقريب؛ لأنه واقع، وكل واقع قريب مهما يتباعد زمانه...
والمعنى إذا كانوا قد أعرضوا عن الحق، ولجوا في إعراضهم جهالة وحيرة فذرهم حتى حين، والحين الذي ينتهي عنده انتظار أمر الله هو ما بعد الهجرة، ولقاؤهم في ميدان القتال.
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
والأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بترك الكفار في غمرتهم تعبير أسلوبي تكرر في القرآن بمعناه. ولا يعني طبعا ترك إنذارهم كما قلنا في المناسبات السابقة. والراجح أنه ينطوي على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم عن عناد الكفار ومكابرتهم واستغراقهم في ضلالهم.
{فذرهم} يعني: دعهم، والعرب لم تستعمل الماضي من هذين الفعلين، فورد فيهما يدع ويذر. وقد ورد هذا الفعل أيضا في قوله تعالى: {وذرني والمكذبين أولي النعمة.. (11)} [المزمل]. وفي قوله تعالى: {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث.. (44)} [القلم]. والمعنى: ذرهم لي أنا أتولى عقابهم، وأفعل بهم ما أشاء، أو: ذرهم يفعلون ما يشاءون ليستحقوا العقاب، وينزل بهم العذاب. والغمرة: جملة الماء التي تغطي قامة الرجل وتمنع عنه التنفس، فلا يبقى له من أمل في الحياة إلا بمقدار ما في رئته من الهواء...
فالمعنى: ذرهم في غبائهم وغفلتهم فلن يطول بهم الوقت؛ لأنهم كمن غمره الماء، وسرعان ما تنكتم أنفاسه ويفارق الحياة؛ لذلك قال تعالى بعدها: {حتى حين} والحين مدة من الزمن قد تطول، كما في قوله تعالى: {تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.. (25)} [إبراهيم]. وقد تقصر كما في قوله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون (17)} [الروم]: وكأن الله تعالى عبّر بالغمرة ليدل على أن حينهم لن يطول.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لا تتوقف عن السير في طريقك الذي أراد الله لك أن تسير فيه، بل تابع رسالتك لتفتح أبواب المعرفة للناس، وتطل بهم على آفاق الله من نافذة الوعي والفكر والتأمل، وليبقَ هؤلاء في غمرتهم في أجواء الجهل والضلال...