ثم نعت هاتين الجنتين فقال : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } أي : أغصان نَضِرَة حسنة ، تحمل من كل ثمرة نضيجة فائقة ، { فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } . هكذا {[27915]} قال عطاء الخراساني وجماعة : إن الأفنان أغصان الشجَر يمس بعضُها بعضا .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا مسلم بن قتيبة ، حدثنا عبد الله بن النعمان ، سمعت عكرمة يقول : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } ، يقول : ظِل الأغصان على الحيطان ، ألم تسمع قول الشاعر حيث يقول :
ما هاجَ شَوقَكَ من هَديل حَمَامَةٍ*** تَدْعُو على فَنَن الغُصُون حَمَاما
تَدْعُو أبا فَرْخَين صادف طاويا*** ذا مخلبين من الصقور قَطاما{[27916]}
وحكى البغوي ، عن مجاهد ، وعكرمة ، والضحاك ، والكلبي : أنه الغصن المستقيم {[27917]} [ طوالا ] {[27918]} .
قال : وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، حدثنا عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } : ذواتا ألوان .
قال : و [ قد ] {[27919]} روي عن سعيد بن جبير ، والحسن ، والسدي ، وخُصَيف ، والنضر بن عربي {[27920]} ، وأبي سِنَان مثل ذلك . ومعنى هذا القول أن فيهما فنونا من الملاذ ، واختاره ابن جرير .
وقال عطاء : كل غصن يجمع فنونا من الفاكهة ، وقال الربيع بن أنس : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } : واسعتا الفناء .
وكل هذه الأقوال صحيحة ، ولا منافاة بينها ، والله أعلم . وقال قتادة : { ذَوَاتَا أَفْنَانٍ } ينبئ بسعتها وفضلها {[27921]} ومزيتها على ما سواها .
وقال محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن أسماء{[27922]} قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وذكر سدرة المنتهى - فقال : " يسير في ظل الفَنَن منها الراكب مائة سنة - أو قال : يستظل في ظل الفَنَن منها مائة راكب - فيها فراش الذهب ، كأن ثمرها القِلال " .
وقوله : ذَوَاتا أفْنانٍ يقول : ذواتا ألوان ، واحدها فن ، وهو من قولهم : افتنّ فلان في حديثه : إذا أخذ في فنون منه وضروب . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن يزيد الطحان ، قال : حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ، في قوله : ذَوَاتا أفْنانٍ قال : ذواتا ألوان .
حدثنا الفضل بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو قُتيبة ، قال : حدثنا عبد الله بن النعمان ، عن عكرمة ذَوَاتا أفْنانٍ قال : ظلّ الأغصان على الحيطان ، قال : وقال الشاعر :
ما هاجَ شَوْقَكَ مِنْ هَديلِ حَمامَةٍ *** تَدْعُو على فَنن الغُصُونِ حَماما
تَدْعُوا أبا فَرْخَين صَادَفَ ضَاريا *** ذا مخْلَبَين مِنَ الصّقُورِ قَطاما
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد ذَوَاتا أفْنانٍ قال : ذواتا ألوان .
قال : ثنا مهران ، عن أبي سنان ذَوَاتا أفْنانٍ قال : ذواتا ألوان .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ذَوَاتا أفْنانٍ يقول : ألوان من الفاكهة .
وقال آخرون : ذواتا أغصان . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُميد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن رجل من أهل البصرة ، عن مجاهد ذَوَاتا أفْنانٍ قال : ذواتا أغصان .
وقال آخرون : معنى ذلك : ذواتا أطراف أغصان الشجر . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ذَوَاتا أفْنانٍ يقول : فيما بين أطراف شجرها ، يعني : يمسّ بعضها بعضا كالمعروشات ، ويقال ذواتا فضول عن كلّ شيء .
وقال آخرون : بل عنى بذلك فضلهما وسعتهما على ما سواهما . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ذَوَاتا أفْنانٍ يعني : فضلهما وسعتهما على ما سواهما .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : ذَوَاتا أفْنانٍ قال : ذواتا فضل على ما سواهما .
والأفنان يحتمل أن يكون جمع فنن ، وهو فنن الغصن ، وهذا قول مجاهد ، فكأنه مدحها بظلالها وتكاثف أغصانها ويحتمل أن يكون جمع فن ، وهو قول ابن عباس ، فكأنه مدحها بكثرة أنواع فواكهها ونعيمها{[10843]} .
وَذَواتا : تثنية ذات ، والواو أصلية لأن أصل ذات : ذَوة ، والألف التي بعد الواو إشباع للفتحة لازم للكلمة . وقيل : الألف أصلية وأن أصل ( ذات ) : ذوات فخففت في الإِفراد وردّتها التثنية إلى أصلها وقد تقدم في قوله تعالى : { وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكل خمط } في سورة سبأ ( 16 ) . وأما الألف التي بعد التاء المثناة الفوقية فهي علامة رفع نائبة عن الضمة .
والأفنان : جمع فَنَن بفتحتين ، وهو الغصن . والمقصود هنا : أفنان عظيمة كثيرة الإِيراق والإِثمار بقرينة أنّ الأفنان لا تخلو عنها الجنات فلا يحتاج إلى ذكر الأفنان لولا قصد ما في التنكير من التعظيم .