ثم قال - تعالى - : { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المصيطرون } أى : بل أعند هؤلاء الغافلين { خَزَآئِنُ رَبِّكَ } أى : مفاتيح أرزاقه - تعالى - لعباده ، وقدراته لهم ، حتى يقسموها عليهم كما شاءوا ، أم هم المصيطرون على أحوال هذا الكون ، المتسلطون على مقدراته ، حتى لكأنهم أربابه المتغلبون عليه ؟
كلا لا شىء لهم من ذلك إطلاقا ، وإنما هم وغيرهم فقراء إلى رزق الله - تعالى – لهم
القول في تأويل قوله تعالى : { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ * أَمْ لَهُمْ سُلّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مّبِينٍ } .
يقول تعالى ذكره : أعند هؤلاء المكذّبين بآيات الله خزائن ربك يا محمد ، فهم لاستغنائهم بذلك عن آيات ربهم معرضون ، أم هم المسيطرون . اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : أم هم المسلّطون . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : أمْ هُمْ المُسَيْطِرُونَ يقول : المسلّطون .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أم هم المُنْزِلُونَ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ أمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ قال : يقول أم هم المنزلون .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أم هم الأرباب ، وممن قال ذلك معمر بن المثنى ، قال : يقال : سيطرتَ عليّ : أي اتخذتني خولاً لك .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : معنى ذلك : أم هم الجبّارون المتسلطون المستكبرون على الله ، وذلك أن المسيطر في كلام العرب الجبار المتسلط ، ومنه قول الله : لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ يقول : لست عليهم بجبار مسلط .
{ أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّك } .
انتقال بالعود إلى ردّ جحودهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولذلك غُيّر أسلوب الأخبار فيه إلى مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم وكان الأصل الذي ركّزوا عليه جحودهم توهمَ أن الله لو أرسل رسولاً من البشر لكان الأحقُّ بالرسالة رجلاً عظيماً من عظماء قومهم كما حكى الله عنهم : { أأنزل عليه الذكر من بيننا } [ ص : 8 ] وقال تعالى : { وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] يعنون قرية مكة وقرية الطائف .
والمعنى : إبطال أن يكون لهم تصرف في شؤون الربوبية فيجعلوا الأمور على مشيئتهم كالمالك في ملكه والمدبرِ فيما وُكل عليه ، فالاستفهام إنكاري بتنزيلهم في إبطال النبوءة عمن لا يرضونه منزلة من عندهم خزائن الله يخلعون الخلع منها على من يشاؤون ويمنعون من يشاؤون .
والخزائن : جمع خزينة وهي البيت ، أو الصندوق الذي تخزن فيه الأقوات ، أو المال وما هو نفيس عند خازنه ، وتقدم عند قوله تعالى : { قال اجعلني على خزائن الأرض } [ يوسف : 55 ] . وهي هنا مستعارة لما في علم الله وإرادته من إعطاء الغير للمخلوقات ، ومنه اصطفاء من هيّأهُ من الناس لتبليغ الرسالة عنه إلى البشر ، وقد تقدم في سورة الأنعام ( 50 ) قوله : { قل لا أقول لكم عندي خزائن اللَّه } قال تعالى : { وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل اللَّه اللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته } [ الأنعام : 124 ] . وقال : { وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان اللَّه وتعالى عما يشركون } [ القصص : 68 ] .
وقد سُلك معهم هنا مسلك الإِيجاز في الاستدلال بإحالتهم على مجمل أجمله قوله : { أم عندهم خزائن ربك } ، لأن المقام مقام غضب عليهم لجرأتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم في نفي الرسالة عنه بوقاحة من قولهم : كاهن ، ومجنون ، وشاعر إلخ بخلاف آية الأنعام فإنها ردّت عليهم تعريضهم أنفسهم لنوال الرسالة عن الله .
فقوله تعالى هنا : { أم عندهم خزائن ربك } هو كقوله في سورة ص ( 8 ، 9 ) { أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب } وقوله في سورة الزخرف ( 32 ) { أهم يقسمون رحمتَ ربك } وكلمة عند تستعمل كثيراً في معنى الملك والاختصاص كقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب } [ الأنعام : 59 ] ، فالمعنى : أيملكون خزائن ربك ، أي الخزائن التي يملكها ربك كما اقتضته إضافة { خزائن } إلى { ربك } على نحو { أعنده علم الغيب فهو يرى } [ النجم : 35 ] . وقد عبر عن هذا باللفظ الحقيقي في قوله تعالى : { قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق } [ الإسراء : 100 ] .
إنكار لأن يكون لهم تصرف في عطاء الله تعالى ولو دون تصرف المالك مثل تصرف الوكيل والخازن وهو ما عبر عنه بالمصيطرون .
والمصيطر : يقال بالصاد والسين في أوله : اسم فاعل من صيطر بالصاد والسين ، إذا حفظ وتسلط ، وهو فعل مشتق من سيطر إذا قطع ، ومنه الساطور ، وهو حديدة يقطع بها اللحم والعظم . وصيغ منه وزن فيعل للإِلحاق بالرباعي كقولهم : بيقر ، بمعنى هلك أو تحضر ، وبيطر بمعنى شق ، وهيمن ، ولا خامس لها في الأفعال . وإبدال السين صاداً لغة فيه مثل الصراط والسراط .
وقرأ الجمهور { المصيطرون } بصاد . وقرأه قنبل عن ابن كثير وهشام عن ابن عامر ، وحفص في رواية بالسين في أوله .
وفي معنى الآية قوله تعالى : { أهم يقسمون رحمتَ ربك } [ الزخرف : 32 ] ، وليس في الآية الاستدلال لهذا النفي في قوله : { أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون } لأن وضوحه كنار على عَلَم . وقد تقدم في صدر تفسير هذه السورة حديث جبير بن مطعم لما سمع هذه الآية وكانت سبب إسلامه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.